دين الإسلام

دين الإسلام

"نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام.. فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله"

وممـا زادنـي شـرفًـــا وفخــــرًا              
               وكدتُ بأخمصي أَطـأُ الثريَّــا
دخولي تحت قولك: (ياعبادي)              
              وأن صيَّــرت أحـــمد لي نبــــيِّا

   جاء الإسلام وشريعته منهجاً ومعجزة للعالم بأسره، أما المعجزة فهي في صياغته اللفظية واللغوية وكذا طريقة نظمه، كما جاء المنهج معجزاً أيضاً، فحينما علم وعمل الأولون بهذا المنهج كدستور للحياة سادوا الأمم.

إن من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى على هذه الأمة، أن أرسل إليها رسوله محمدًا ﷺ بشيرًا ونذيرًا، ثم أنزل عليه هذا القرآن العظيم، وجعله هداية للناس ورحمة وشفاءً، وأمرهم بتلاوته وتدبره والعمل به، وكلمة “قرآن” في اللغة: مصدر مأخوذ من (قرأ) بمعنى القراءة والتلاوة، وهو عند الإطلاق -لا يختلف اثنان من المسلمين أن المقصود به- كلام الله تعالى الموجود بين دفتي المصحف المنقول إلينا نقلاً متواترًا المنزل على رسوله ﷺ لهداية الناس.

نزول القرآن

هذا القرآن العظيم أنزله الله على رسوله ﷺ وقد ورد التصريح بذلك في القرآن العظيم يقول الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ ‌مِنَ ‌الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: 1] وقال تعالى ﴿‌تَنْزِيلُ ‌الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الزمر: 1]، والآيات كثيرة جدًا في هذا الأمر مبينة أنه مُنزّل من عند الله، وفي هذا تشريف لهذا القرآن وتكريم لهذا الكتاب وبيان لعلو منزلته.

كيفية نزوله

نزل القرآن جملةً من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا في الليلة المباركة وهي ليلة القدر من شهر رمضان المبارك، وهذا ظاهر من قوله تعالى: ﴿‌شَهْرُ ‌رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185]، وقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ‌لَيْلَةٍ ‌مُبَارَكَةٍ﴾ [الدخان: 3]، وقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ‌لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1].

والمتأمل في نزول القرآن على هاتين الصفتين يتبين له بعض الحِكم.

فأما الحكمة من نزوله جملة واحدة فهي: تفخيم أمر هذا القرآن العظيم وتعظيم قدر المنزل عليه وهو محمد ﷺ خاتم الرسل وأشرف الخلق، وفيه أيضًا تكريم من ينزل عليهم وهم المسلمون، وفيه أيضًا تفضيل هذا القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية الأخرى وذلك بأن جمع الله له النزولين: النزول جملة والنزول مفرقًا.

وأما الحكمة من نزوله منجمًا: فهي كثيرة وظاهرة، من ذلك تثبيت فؤاد الرسول ﷺ كما صرّحت بذلك الآية في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ‌وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: 32]، فكلّما حزن الرسول ﷺ على عدم إيمان قومه وكلما ازداد عنادهم له وإيذاؤهم إياه كان نزول الآيات عليه بين فترة وأخرى تذكرة، وتبصرة، وتقوي صلته بربه وتبين له صبر الأنبياء قبله، وتدعوه إلى التأسي بهم وفي هذا من تثبيت فؤاده ما لا يخفى.

وفيه من الحِكم أيضًا: تيسير حفظه وفهمه، فلو نزل جملة واحدة على الرسول ﷺ لكان في ذلك مشقة كبيرة والأمة أمية في جملتها لا تقرأ ولا تكتب، ولا شك أن نزوله منجمًا فيه تيسير لحفظه وفهمه وتسهيل للعمل به.

وفيه أيضًا من الحكم: التدرج في التشريع، وهذا ما بينته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ تقول: ” إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: ‌لَا ‌تَزْنُوا، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ ” [رواه البخاري]، وهكذا في بقية الأحكام وغالبًا ما يكون الإجمال في العهد المكي ثم التفصيل في العهد المدني.

ومن الحِكم أيضًا: الدلالات القاطعة على أن القرآن الكريم من عند الله العزيز الحكيم فنزول القرآن مفرقًا في نحو ثلاث وعشرين سنة على فترات مختلفة الآية أو الآيات ثم يجده القارئ متناسق الآيات والسور، لا تنافر فيه ولا تعارض يدل دلالة ظاهرة أنه من حكيم حميد.

هذه بعض الحِكم من نزول القرآن مفرقًا في هذه المدة وقد حرص الصحابة (رضي الله عنهم) على هذا القرآن العظيم فعلموا نزوله متى وأين، فعلموا منه ما نزل في مكة وما نزل في المدينة وما نزل في غيرهما من الأماكن التي ذهب إليها الرسول ﷺ. 

خصائص القرآن العظيم

لقد اختص الله هذا الكتاب العزيز بخصائص كثيرة، وليس من السهل أن نستوعب هذه الخصائص بالحديث عنها ولكن نشير إلى بعضها إشارة وجيزة. فمن أهم هذه الخصائص:  

– أنه من عند الله عز وجل فلا ينسب إلا لله سبحانه وتعالى فيقال كلام الله، قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‌اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة: 6]، وغير ذلك من الآيات.

– أنه نزل باللغة العربية كما بيَّن الله ذلك في أكثر من آية من كتابه، فنزل على سبعة أحرف، كل منها كافٍ شافٍ.

فالقرآن هو الحجة التي أظهرها الله جل وعلا على يد نبيه ﷺ وتحدّى الناس أن يأتوا بمثله أو بعشر سور منه أو بسورة من مثله وما استطاعوا ولن يستطيعوا ولو اجتمع الإنس والجن، ولم يدع المشركون سبيلاً للقضاء عليه إلا سلكوه؛ فوصفوه بالسحر مع علمهم أنه ليس كذلك ووصفوه بالشعر مع علمهم أنه ليس كذلك، ثم قالوا: ﴿‌لَا ‌تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: 26]، وليس القرآن معجزًا بأسلوبه فحسب بل إعجازه أكبر من أن يحيط به أهل عصر. فهناك الإعجاز العلمي، والغيبي وغير ذلك مما يستجد ويظهر في جيل بعد جيل، وما زالت وجوه الإعجاز فيه تتجدد كتجدد الليل والنهار.

– حفظ الله له، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ ‌لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، والقرآن وحده تعهد الله بحفظه، أما الكتب قبله فقد أوكل الله حفظها إلى أهلها قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا ‌هُدًى ‌وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ [المائدة: 44]، ومع ذلك قام أهلها بتحريفها وتبديلها، أما القرآن مع كثرة أعدائه، وحرصهم على تحريفه؛ لم يستطيعوا زيادة حرف أو نقصانه، وهذا هو السر في قول الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ ‌لَحَافِظُونَ﴾. ولذا أجمع المسلمون على أن طريقة أخذ القرآن هي التلقي من أفواه المشايخ وهذه هي الخاصية التالية ألا وهي:

– اتصال السند وأخذه بالتلقي، فإذا كان القرآن الكريم اختص من بين سائر الكتب بأنه يتلقى مشافهة، ولا يكتفى بدراسته من المصاحف بدون معلم، فإنَّ هذا يعني اتصال سند كل مسلم برسول الله ﷺ عن جبريل عليه السلام عن ربه جل وعلا، وبهذا يكون سند القرآن في كل عصر متصلاً برسول الله ﷺ وليس هذا لكتاب غير القرآن الكريم، فقد شرّف الله هذه الأمة باتصال سندها برسولها ﷺ.

– تيسير حفظه وتلاوته، وقد بيّن الله ذلك بقوله: ﴿‌وَلَقَدْ ‌يَسَّرْنَا ‌الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17]. قال مجاهد: هوّنّا قراءته. وَقَالَ مَطَرٌ الوَرَّاقُ: «هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانَ عَلَيْهِ» [رواه البخاري].

وهذا جليّ لا يحتاج إلى بيان؛ فهذا الأعجمي لا يعرف اللغة العربية لا نطقًا ولا معنى، ولا يخرج الحرف العربي من مخرجه سليمًا، تراه وهو يقرأ القـرآن فيرتله ترتيلاً، تخرج حروفه من مخارجها سليمة من حيث الفصاحة وسلامة النطق ثم تسمعه أيضًا يستظهر القرآن عن ظهر قلب من أوله إلى آخره. إن هذا لمن أعجب الصور في تيسير القرآن العظيم!

وصورة أخرى من هذا القبيل إذ تنظر إلى الصبي الذي لا يتجاوز العاشرة من عمره يتردد على حلقات تحفيظ القرآن الكريم فلا يلبث إلا زمنًا يسيرًا فإذا به قد حفظه وأجاد تلاوته واستقام به لسانه وحسن به نطقه بل هذب أخلاقه، وليس هذا وحده بل الأميّ الذي لا يعرف القراءة والكتابة وقد بلغ في العمر مبلغًا، تراه يستمع إلى قراءة القرآن عبر أشرطة الكاسيت فلا يمضي عليه زمن إلا وقد حفظ منه الشيء الكثير، ومثل هذا في جانب التلاوة، فالتلاوة ميسرة في ذاتها وسهولتها، وميسرة في وفرة المصاحف وكثرتها، المقروء منها والمسموع ،كاملاً ومجزءاً، فيقرؤه المسلم في كل وقت وحين في مسجده ومنزله ومتجره ومكتبه وطريقه. وهذا تحقـيق لقوله تعالى: ﴿‌وَلَقَدْ ‌يَسَّرْنَا ‌الْقُرْآنَ﴾.

– هو يفي بحاجات البشر مع عدم تصادمه مع الحقائق العلمية.

– وهو أيضًا ذو تأثير قوي في النفوس مع ما فيه من تأثير على الأمراض، فهو شفاء ودواء من كثير من الأمراض النفسية والحسية.

– فيه المتعة والأنس والسلوان في قراءته وترتيله فلا يُمل مع كثرة القراءة بل هو سبب من أسباب انشراح الصدر، فهو أعظم الذكر؛ والذكر يطمئن به القلب، وفي الآخرة يأتي شفيعًا لأصحابه الذين قضوا أوقاتهم في تعلمه وتعليمه وتعبدوا الله بتلاوته، ومع هذا فهو سبب لرفع الدرجات وتكفير السيئات بما يترتب على قراءته من الأجر العظيم.

فضل تلاوة القرآن

لقد أمرنا الله عز وجل بتلاوة هذا القرآن وتدبره والعمل به والتمسك بهديه، ووعد الذين يتلونه ويعملون به أجرًا عظيمًا ومنزلة عالية في الجنة فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ‌يَتْلُونَ ‌كِتَابَ ‌اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: 29-30].

وهناك آيات كثيرة آمرة بتلاوة القرآن العظـيم كقوله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4]، وقوله: ﴿فَاقْرَءُوا ‌مَا ‌تَيَسَّرَ ‌مِنْهُ﴾ [المزمل: 20].

وقد بيّن الرسول ﷺ جزاء من قرأ القرآن وذلك بمضاعفة الأجر والترقي في درجات الجنان، وشفاعة القرآن لصاحبه، فمن ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ : «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ ‌السَّفَرَةِ ‌الْكِرَامِ ‌الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شاق لَهُ أَجْرَانِ» [متفق عليه].

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: “من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنةُ بعشر أمثالها، لا أَقول {ألم} حرف، ‌ولكن ‌ألف ‌حرف، ‌ولام حرف، وميم حرف”. [رواه الترمذي وصححه الألباني]. وهذا فضل عظيم، وأجر كبير لقارئ القرآن.

وتلاوة القرآن حلية لأهل الإيمان، فالمؤمن الذي يقرأ القرآن طيب الظاهر والباطن كالأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، وتلاوة القرآن أعظم مـن كنوز الدنيا فخير الناس من تعلم القرآن وعلمه، وهذه بشارة عظيمة لمن تعلّم القرآن وعلّمه، ولا شك أن السلف الصالح (رضوان الله عليهم) أدركوا هذه الخيرية التي يتميز بها معلم القرآن ومتعلمه فحرصوا على بلوغها، فهذا أبو عبدالرحمن السلمي بقي يقرئ الناس القرآن في مسجد الكوفة أربعين سنة، فهنيئًا لأهل القرآن بهذا الفضل العظيم والمنزلة السامية.

ولذا كان السلف الصالح يختمون القرآن في كل شهر مرة، ومنهم من يختمه في كل عشر، ومنهم من يختمه في كل أسبوع. فخير ما قضيت فيه الأوقات هو تلاوة القرآن العظيم وتدبره والتفكر في معانيه.

جمع القرآن

لقد تكفل الله عز وجل بحفظ القرآن العظيم ووعد رسوله ﷺ بجمعه له فقال تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا ‌جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 17]، والقرآن الكريم اجتمع له ما لم يجتمع لغيره من الكتب السابقة فاعتمد في طريقة نقله المشافهة والحفظ والكتابة والتدوين.

أما الحفظ والمشافهة فقد جمع القرآن على عهد النبي ﷺ كثير من الصحابة كالخلفاء الأربعة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهم كثير، فكان الرسول ﷺ إذا نزلت عليه الآيات تلاها على أصحابه وحفّظهم إياها فكان الصحابة يحفظون القرآن، ولا أدل على ذلك من استشهاد حملة القرآن في بئر معونة وفي معركة اليمامة.

أما حفظه بمعنى كتابته وتدوينه فتم في زمن الرسول ﷺ أيضًا، يقول كاتب الوحي زيد بن ثابت: (كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ‌نُؤَلِّفُ ‌القرآن ‌من ‌الرقاع) [رواه أحمد بسند صحيح]، فكانوا يكتبون الآيات في الرقاع وغير ذلك مما هو متيسر من أدوات الكتابة آنذاك، فكُتب القرآن كاملاً على عهد الرسول ﷺ إلا أنه لم يكن مرتبًا كما هو الآن بين أيدينا لأن ترتيبه هذا كان معلومًا للصحابة (رضوان الله عليهم) في صدورهم ومحفوظهم.

أما بعد وفاة الرسول ﷺ فقد دعت الضرورة إلى كتابته وترتيبه بمحضر من حفظته لا سيما بعد استشهاد كثير من حملته من جهة ومن جهة أخرى دخول الناس في دين الله أفواجًا وهم لا يعرفون من القرآن شيئًا.

عن زَيْدَ بْن ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ اليَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عِنْدَهُ»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ القَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمَامَةِ بِقُرَّاءِ القُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بِالقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ القُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: «كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟» قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، «فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ»، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، «فَوَاللَّهِ ‌لَوْ ‌كَلَّفُونِي ‌نَقْلَ ‌جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ»، قُلْتُ: «كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟»، قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، ” فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ العُسُبِ وَاللِّخَافِ، وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ”. [رواه البخاري].

فقام به خير قيام وكان كما وصفه أبو بكر (رضي الله عنه) وهو مع ذلك ممن شهد العرضة الأخيرة، والصحابة (رضوان الله عليهم) يعرفون ذلك. وكانت الكتابة على أعلى درجات الدقة والتوثيق فكان زيد لا يكتفي بما عنده ولا بما عند الصحابة أيضًا إلاّ بشهادة رجلين، وانتهى العمل بكل اطمئنان وثقة، وكان مدة الجمع ما يقارب من عام ووضعت الصحف عند أبي بكر (رضي الله عنه) فلما توفي صارت إلى عمر (رضي الله عنه) فلما توفي صارت إلى حفصة رضي الله عنها حتى طلبها الخليفة عثمان (رضي الله عنه) فنسخ منها.

وفي أيام الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) اتسعت الفتوحات الإسلامية وكان كل صحابي يعلم الناس بالحرف الذي أتقنه على رسول الله ﷺ فكثر الخلاف بين المسلمين وكل يصحح قراءته دون الأخرى فراع ذلك بعض الصحابة كحذيفة بن اليمان، (فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، ‌أَدْرِكْ ‌هَذِهِ ‌الأُمَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلَافَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: «أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ»، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي المَصَاحِفِ “، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ» فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي المَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ، أَنْ يُحْرَقَ).

مزايا المصاحف العثمانية:

– الاقتصار على ما ثبت بالتواتر.

– ترتيب السور على الوجه المعروف حاليًا، بخلاف صحف أبي بكر (رضي الله عنه) التي كانت مرتبة الآيات دون السور.

– كتابتها بطريقة تجمع وجوه القراءات المختلفة والأحرف التي نزل عليها القرآن بعدم إعجامها وشكلها، ومن توزيع وجوه القراءات على المصاحف إذا لم يحتملها الرسم الواحد.

– تجريدها من كل ما ليس قرآنًا كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة شرحًا لمعنى، أو نحو ذلك.

واختلفوا في عدد المصاحف التي أمر عثمان بكتابتها، والمشهور أنها خمسة: أرسل أربعةً منها إلى مكة، والمدينة والكوفة، والشام، وأمسك واحدًا منها، وهو المعروف بالمصحف الإمام. وبهذا العمل جمع الله الأمة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا.

تعتبر علوم الحديث النبوي الشريف من العلوم الإسلامية الهامة، يؤكد ذلك نصوص القرآن ونصوص السنة وإجماع الأمة، وأن جميع المسلمين ينظرون إلى الحديث النبوي الشريف نظرة توقير وتبجيل، باعتبار أنه المصدر الثاني للتشريع، بعد القرآن الكريم. قال النبي ﷺ: (أَلا إِنِّي أُوتيت الْكتاب ‌وَمِثْلَهُ ‌مَعَهُ). [رواه أبو داود وصححه الألباني].

ويتفق جميع المشتغلين بعلوم الحديث النبوي على تعريف الحديث بأنه:

أقوال النبي ﷺ، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخِلقية، والخُلقية، أو سيرة، سواء كان قبل البعثة أو بعدها.

والمراد من “أقواله”: كل ما نُسِب إليه ﷺ أنه تلفظ به، مهما كان موضوع هذا التلفظ؛ في العقائد أو الأحكام أو الآداب العامة، أو في صفات الجنة أو النار، أو غير ذلك. مثل قول الصحابي: قال رسول الله ﷺ: “‌إِذَا ‌أَحْسَنَ ‌أَحَدُكُمْ ‌إِسْلَامَهُ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا”. [متفق عليه].

والمراد من “أفعاله”: مـا نٌسِب إليه ﷺ أنه فعله أو عمله، مثل وصف الصحابي رسول الله ﷺ بأنه «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ ‌حَتَّى ‌يَبْدُوَ ‌بَيَاضُ ‌إِبْطَيْهِ» [متفق عليه].

والمراد من “تقريراته” (ومفردها تقرير): أن يقول الصحابي قولاً أو يفعل فعلاً أمام النبي ﷺ، أو في غيبته ويُخبر به، فيسكت عن ذلك القول أو الفعل، ولا يعترض عليهما، فيعتبر هذا السكوتُ موافقةً منه على ذلك الفعل أو القول، لأن المعروف عنه ﷺ أنه لا يُقِرّ أحدًا على قولٍ أو فعلٍ لم يرضَ عنه. ومن أمثلة تقريراته لأقوال الصحابة: إقرارُه أكل الضب على مائدته.

والمراد من “صفاته الخَلقية”: هيئته ﷺ التي خلق عليها، مثل لون بشرته، ونعومة ملمسه، ومقدار طوله ﷺ.

والمراد من “صفاته الخُلُقِيَّة”: ما كان فيـه مـن الأخلاق الكريمة، والسجايا الحميدة -وكل أخلاقه من هذا القبيل- مثل شدّة حيائه، وكثرة تواضعه، وعطفه على الفقراء والأرامل واليتامى، وشجاعته وكرمه. 

تدوين الحديث الشريف

تدلنا نصوص كثيرة على أن كتابة الحديث النبوي بدأت في عهد الرسول ﷺ وأنها كانت بعلمه، بل بأمره في بعض الأحيان.

– فقد ثبت عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أنه قال: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، ‌فَإِنَّهُ ‌كَانَ ‌يَكْتُبُ ‌وَلَا ‌أَكْتُبُ» [رواه البخاري]

– وقد تحدّث عبد الله بن عمرو عن كتابته للحديث فقال: “كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ؟ فَقَالَ: “اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا حَقٌّ” [رواه أحمد بسند صحيح].

– وأمر رسول الله ﷺ بالكتابة لأبي شاه، وهو رجل من أهل اليمن لم يستطع أن يحفظ تفصيلات إحدى خطب النبي ﷺ فطلب أن تكتب له، فقال رسول الله ﷺ : «‌اكْتُبُوا ‌لِأَبِي ‌شَاهٍ». [متفق عليه].

– ومنها أنه أمر بكتابة رسائل كثيرة، لعدد من الملوك وزعماء القبائل في عصره يدعوهم إلى الإسلام.

فهذه النصوص وغيرها تثبت أن كتابة الحديث بدأت في عهد رسول الله ﷺ. ولما توفي ﷺ استمر الصحابة في كتابة الحديث، وقد ذكر الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه: “دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه” اثنين وخمسين صحابيًا كتبوا الحديث، وأنه كان لبعضهم عدد من التلاميذ، كتبوا عنهم صحفًا حديثية. أما في عصر التابعين، فتوسعت دائرة الكتابة جدًا، حتى أحصى الدكتور الأعظمي فـي كتابه المتقدم مائة وواحدًا وخمسين تابعيًا، كان كل منهم يجمع الحديث ويكتبه ويمليه على تلاميذه. واستمر التوسع في كتابة الحديث حتى النصف الثاني من القرن الثاني حيث بدأت تظهر المصنفات الحديثية.

ومن الجدير بالذكر أن يقال هنا: إن تدوين الحديث من قِبَل الصحابة ومَن بعدهم كان تدوينًا فرديًا خاصًا. أما التدوين الرسمي أي تدوين الحديث بأمر من رئيس الدولة، فقد كان في عهد عمر بن عبد العزيز، الخليفة الأموي، (كانت ولايته من سنة 99 إلى سنة 101هـ)، حيث وجّه كتبًا إلى عماله وولاته يطلب منهم الاهتمام بالعلماء، ويجمع حديث رسول الله ﷺ. وكان ممن أكّد عليهم بهذا الطلب عامله على المدينة أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم (توفي سنة 117هـ)، وعالم المدينة في زمنه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (توفي سنة 123هـ). وكان غرضه حفظ العلم ونشره، خوفًا من ضياعه وموت أهله.

وقد ذكر الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابيه “الوجيز في علوم الحديث” و “المختصر الوجيز في علوم الحديث” أن التدوين الرسمي كان أسبق من ذلك، وأنه كان في عهد والي مصر عبد العزيز بن مروان (توفي سنة 85هـ) وهو والد عمر، وأنه كان قد تنبه إلى أهمية تدوين أحاديث الرسول ﷺ، فكتب إلى كثير بن مُرّة الحضرمي ­أحد أعلام التابعين­ يطلب منه أن يكتب ما سمعه من أصحاب النبي ﷺ من أحاديث نبوية.

وفي النصف الأول من القرن الهجري الثاني بدأ ظهور المصنفّات الحديثية، واختلف العلماء في تحديد أول من صنّف، لعدم وجود معلومات صريحة في ذلك، إذ كانت سنوات وفيات أصحاب هذه المصنفات متقاربة.

ثم توالت المصنفات بالظهور تباعًا من النصف الثاني من القرن الهجري الثاني حتى كان القرن الهجري الثالث، وهو عصر الازدهار في المؤلفات الحديثية، إذ تنوعت فيه المؤلفات الحديثية وتعددت مظاهرها، وصارت ألوان التأليف وطرائقه واضحة مشهورة. فمن العلماء من ألّف على طريقة الموطآت، ومنهم من ألف على طريقة المسانيد، ومنهم من ألّف على طريقة الأبواب والموضوعات، أو على طريقة المعاجم والأمالي والفوائد والأجزاء… إلى غير ذلك من طرائق التأليف.

وكان أبرز المصنفات الحديثية الكتب الستة، وهي: “الجامع الصحيح” لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (توفي سنة 256هـ)، و “الجامع الصحيح” لمسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (توفي سنة 261هـ)، وكتب “السنن” لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، (توفي سنة 275هـ)، ولأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (توفي سنة 279هـ)، ولأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (توفي سنة 303هـ)، ولابن ماجه أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني (توفي سنة 275هـ).

ويعتبر الكتابان الأولان “الجامع الصحيح” للبخاري و”الجامع الصحيح” لمسلم أصح كتابين بعد القرآن الكريم، لأن مؤلفيهما اشترطا لإخراج الأحاديث فيهما شروطًا خاصة لم تتوفر في غيرهما من المؤلفات. والبخاري مقّدم على مسلم في قوة هذه الشروط.

ومن مظاهر عناية المحدثين بحديث رسول الله ﷺ أن قامت علوم مستقلة، احتوى كل علم منها على مؤلفات كثيرة جدًا، وعلى دراسات مهمة حول دقائق المسائل، خدمة لعلوم الحديث.

منها: “علم الجرح والتعديل”، وهو علم اهتم بدراسة أحوال الرواة، ومعرفة سنوات ولادتهم، وسنوات وفياتهم، وأسماء شيوخهم وتلاميذهم، ورحلاتهم، ودرجات ضبطهم لمروياتهم، وغير ذلك من الصفات، التي تقتضي قبول أو رد الأحاديث التي رووها.

ومنها: “علم علل الحديث”، وهم علم يهتم بدراسة الأسباب الخفية التي تؤدي إلى ضعف الحديث، مع أن ظاهر الحديث الصحة والسلامة.

ومنها: “علم غريب الحديث” ويهتم ببيان معاني الألفاظ الغامضة المعنى، الواقعة في متون الأحاديث.

ومنها: “علم ناسخ الحديث ومنسوخه”، والنسخ هو (رفع الشارع حكمًا متقدمًا بحكم منه متأخر). فموضوع علم ناسخ الحديث ومنسوخه، منصب على جمع ودراسـة الأحاديث المتعارضة التي لا يمكن التوفيق بينها، فيلجأ حينئذٍ لمعرفة المتقدم زمنًا منها وهو المنسوخ، والمتأخر زمنًا وهو الناسخ.

ومن الجوانب المشرقة في الدراسات الحديثية، ما قام به المحدثون من وضع ضوابط لتمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، وهو ما عرف بـ “علم أصول الحديث” أو “علم مصطلح الحديث”. والغرض منه معرفة ما يقبل من الأحاديث وما يردّ. وهذا يحتاج إلى شيء من البيان:

قسّم العلماء الأحاديث، تبعًا لغرض معرفة ما يقبل منها وما يردّ، إلى ثلاثة أنواع:

أولاً: الحديث الصحيح: وهو الحديث المسند المتصل برواية العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة قارحة.

والمراد من “المسند” : أن يكون منسوبًا إلى النبي ﷺ، ومعنى “المتصل” : أن يكون كل راوٍ من رواته قد تلقاه من شيخه، والمراد من “العدل”: المسلم البالغ العاقل السالم من أسباب الفسق وخوارم المروءة. أما “الضابط” فيراد به: أن يكون الراوي متقناً لروايته، فإن كان يروي معتمدًا على ذاكرته لا بد أن يكون حفظه قويًا، وإن كان يروي معتمدًا على كتابه، فلا بد أن يكون كتابه متقنًا وأن تكون قراءته منه سليمة، وأن يعرف عنه محافظته على كتبه. فإذا توفرت العدالة في راوٍ وصف بأنه “ثقة”.

وحتى يكون الحديث صحيحًا لا بد أن تتوفر صفتا العدالة والضبط في كل راوٍ من رواته من بداية الإسناد إلى نهايته. والمراد من “الشذوذ”: مخالفة الراوي الثقة لمن هو أوثق منه. أما “العلة” فهي السبب الخفي الذي يقدح في صحة الحديث، مع أن ظاهر الحديث السلامة من مظاهر الضعف. وغالبًا ما تعرف “العلة” بجمع الأسانيد التي رُوي بها الحديث الواحد، وبمقابلة بعضها ببعض لاكتشاف ما وقع فيه بعض الرواة من أخطاء مع كونهم ثقات. وقد تعرف “العلة”، بتصريح من العالم الناقد الخبير بوجود غلط في حديث ما، ولا يبدي أسباب هذا الغلط ويكون تصريحه مبنيًا على المعرفة الواسعة في هذا العلم والخبرة الطويلة في جمع الأحاديث والملكة القوية في معرفة المتون واختلاف ألفاظها، وإلمام كبير بأحوال الرواة.

والأحاديث الصحيحة متفاوتة في قوتها، تبعاً لقوة رجالها، ويطلق على أقواها اسم “سلاسل الذهب”.

والحديث الصحيح يحتج به العلماء ويعتمدون عليه في إثبات الأحكام، والعقائد وجميع أمور الشريعة.

ثانيًا: الحديث الحسن: وهو مثل الحديث الصحيح في اشتراط جميع الصفات المتقدمة، إلا صفة الضبط، حيث يعتبر المحدثون أن درجة ضبط رواة الحديث الحسن تقصر عن درجة ضبط رواة الحديث الصحيح. فراوي الحديث الصحيح تام الضبط، وراوي الحديث الحسن ضبطه أخف. ويقال للحسن إذا كان كذلك: “الحسن لذاته”، وهو في الاحتجاج به والاعتماد عليه كالصحيح.

ثالثًا: الحديث الضعيف: وهو الحديث الذي لم تتوفر فيه أي صفة من صفات الحديث الصحيح، أو الحديث الحسن. وهو على أنواع كثيرة تبعًا لعدم تحقق هذه الصفات، فقد يكون ضعيفًا لعدم اتصال السند: كما في الحديث المرسل والمعلق والمنقطع والمعضل والمدلس، وغيرها.

والحديث المرسل: هو الذي يرويه التابعي عن الرسول ﷺ، والتابعون هم الذين لقوا أصحاب النبي ﷺ وأخذوا العلم عنهم.

والحديث المعلق: هو أن يروي المصنِّف حديثًا يُسقط منه شيخًا أو أكثر من أول الإسناد.

والحديث المنقطع: هو ما لَم يتصل إسناده على أيِّ وجهٍ كان انقطاعه.

والحديث المعضل: أن يسقط من رواته اثنان متتاليان.

والحديث المدلس: أن يروي الراوي عن شيخه الذي لقيه أحاديث لم يسمعها منه مباشرة، بلفظ موهم سماعه منه، فيظن تلاميذه أنها متصلة وأنه سمعها من شيوخه ولا تكون كذلك.

وقد يكون ضعيفًا لمخالفة رواية رواة آخرين ثقات كما في الحديث الشاذ والمنكر والمضطرب والمدرج والمقلوب والمعل وغيرها. وقد يكون الضعف بسبب عدم توفر العدالة والضبط في راوٍ أو أكثر من رواة الحديث. كما في الحديث المتروك أو الموضوع.

فالحديث المتروك: الذي تفرَّد به راوٍ قد أجمعوا على ضعفه، أو يكون هذا الراوي متهمًا بالكذب

والحديث الموضوع: فـي رواته كـذّاب، لـذا اعتبره العلماء مكذوبًا مختلقًا على رسول الله ﷺ.

وكما يقرّر العلماء أن الأحاديث الصحيحة ليست على درجة واحدة من القوة، تبعًا لقوة ضبط الرواة، وطول ملازمتهم لشيوخهم، فإنهم يقررون أيضًا، أن الأحاديث الضعيفة تتفاوت، فمنها ما هو شديد الضعف، ومنها ما هو يسير الضعف.

وقد وضع علماء الحديث ضوابط تمييز الضعف اليسير من الضعف الشديد، ليس هذا موضع بسطها. لكن الجدير بالذكر هنا أن الحديث إذا كان ضعفه يسيرًا وجاء بإسناد آخر، أو أكثر، وكانت قريبة منه في ضعفها، فإن ضعفه يزول بمجموع طرقه ويرتقي إلى درجة الحسن ويطلق عليه “الحسن لغيره” لتمييزه عن الحديث “الحسن لذاته” الذي تقدم الكلام عنه.

وما يجدر ذكره أيضًا، أن الحديث “الحسن لذاته” إذا جاء بإسناد حسن لذاته آخر، فإنه يتقوى ويرتقي إلى درجة الصحيح لكن يطلق عليه “الصحيح لغيره”، لتمييزه عن الصحيح المتقدم ذكره.

السنة النبوية

تستخدم كلمة “السنة” عند المحدثين، وعند علماء أصول الفقه، وعند الفقهاء، وكل منهم يريد معنى لها غير الذي يريده الآخرون. تبعًا لاختلافهم في الأغراض التي يعتنون بها في علومهم، فأكثر المحدثين يريدون بها (ما نُسب إلى النبي ﷺ، من أقوال أو أفعال أو تقريرات أو صفات خِلقية أو خُلقية)، فهي بهذا التعريف موافقة للحديث النبوي ومرادفة له.

ويريد علماء أصول الفقه: (ما صدر عن النبي ﷺ -غير القرآن- من قول أو فعل، أو تقرير).

ويريد الفقهاء بها: (كل ما ثبت عن النبي ﷺ ولم يكن من باب الفرض والواجب).

ويريد علماء العقيدة بها: (خلاف البدعة).

وغالبًا ما ترتبط كلمة السنة بالقـرآن الكريم، وينظر إليهما علـى أنهما مصدرا التشريع: القرآن هو المصدر الأول، والسنة هي المصدر الثاني.

ولم يكن أصحاب رسول الله ﷺ يفرقون في التلقي بين القرآن والسنة، باعتبار أنهم يسمعون القرآن والسنة من شفتي رسول الله ﷺ فيلتزمون بما يصدر عنه ﷺ. لكن في عهد التابعين ومن بعدهم، صار التحري عن صحـة الأسانيد التي تروى بها السنة، بخلاف القرآن الذي روي بالتواتر فكان قطعي الثبوت. فمـا وجد من سنة ثابتة عن رسول الله ﷺ، التزموا بالعمل بها، وما كان من سنة غير ثابتة عنه، لم يلتزموا بالعمل بها. فمدار العمل بالسنة إذن مبني على ثبوتها.

ولا يختلف علماء الإسلام في أهمية السنة النبوية في التشريع الإسلامي، وأنها في المرتبة الثانية في التشريع بعد القرآن الكريم. وهم ينظرون إليها على أنها:

– مؤكدة لأحكام وردت في القرآن الكريم، مثل: وجوب الصلاة والزكاة والحج، وغير ذلك. فهذه الأحكام ثبت وجوبها في القرآن وفي السنة النبوية.

– أو مبيّنة وشارحة لآيات وردت في كتاب الله. وقد تكون الآيات في القرآن مجملة فتفسرّها السنة النبوية وتبينها، أو تكون الآيات مطلقة فيأتي تقييدها في السنة. أو تكون الآيات عامة فتخصصها السنة.

ومن أمثلة ما جاء مجملاً في القرآن الكريم وبينته السنة: الأمر بالصلاة والزكاة والحج وغيرها، جاءت دون تفصيل في عدد الركعات في كل صلاة، ودون بيان لكيفية السجود والتشهد، ودون تفصيل في مقادير الزكاة، والأنصبة في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ودون تفصيل في كيفية الطواف والسعي والرمي، وغير ذلك. فجاءت السنة وبيّنت كل ذلك ووضّحته.

ومن الأمثلة على ما جاء في القرآن مطلقًا وقيّدته السنة، قول الله -عزّ وجلّ-: {‌وَالسَّارِقُ ‌وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فقيدت السنة القطع بكونه من مفصل الكف.

ومن الأمثلة على ما جاء في القرآن عامًّا وجاء في السنة تخصيصه: قول الله –عزّ وجلّ-: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ…} [النساء:11]، فهذا عام في أن كل ولد يرث من والده، لكن ورد في السنة ما يخصص هذا الحكم بغير القاتل، لقول رسول الله ﷺ (لا يرث القاتل) [رواه الترمذي].

– أن تكون السنة مثبتة لحكـم لم يرد في القرآن الكريم، مثل الحكم بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها. أو حرمة لبس الحرير والذهب على الرجال. فهذه الأحكام وغيرها لم ترد في القرآن الكريم وإنما وردت في السنة النبوية. لذا فالسنة تستقل بالتشريع وتنشئ أحكامًا جديدة.

(1) التوحيد

التوحيد: هو إفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له، وهو دين الرسل كلهم -عليهم الصلاة والسلام- الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه، ولا تصح الأعمال إلا به، إذ هو أصلهـا الذي تُبنى عليه.

أقسام التوحيد:

ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

توحيد الربوبية:

وهو الإقرار بأن لا رب للعالمين إلا الله الذي خلقهم، ورزقهم، وهذا النوع من التوحيد قد أقر به المشركون الأوائل، فهم يشهدون أن الله هو الخالق، والمالك، والمدبر، والمحيي، والمميت وحده لا شريك له، قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ‌وَسَخَّرَ ‌الشَّمْسَ ‌وَالْقَمَرَ ‌لَيَقُولُنَّ ‌اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [العنكبوت: 61] 

ولكن إقرارهم هذا وشهادتهم تلك لم تدخلهم في الإسلام، ولم تنجهم من النار، ولم تعصم دماءهم وأموالهم، لأنهم لم يحققوا توحيد الألوهية، بل أشركوا مع الله في عبادته، بصرفهم شيئاً منها لغيره. 

توحيد الألوهية

وهو توحيد العبادة أي: إفراد الله -سبحانه وتعالى- بجميع أنواع العبادة التي أمر بها كالدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من العبادات التي أمر الله بها كلها، والدليل قوله تعالى: ﴿‌وَأَنَّ ‌الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18]، فلا يجوز أن يصرف الإنسان شيئاً من هذه العبادات لغير الله -سبحانه وتعالى- لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لولي صالح، ولا لأي أحد من المخلوقين، لأن العبادة لا تصح إلا لله، فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد أشرك بالله شركاً أكبر وحبط عمله.

وحاصله: هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله، والإقبال بالقلب والعبادة على الله، ولا يكفي في التوحيد دعواه، والنطق بكلمة الشهادة من غير مفارقة لدين المشركين وما هم عليه من دعاء غير الله.

توحيد الأسماء والصفات

وهو الإيمان بأن لله تعالى ذاتاً لا تشبهها الذوات وصفـات لا تشبهها الصفات، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ‌وَهُوَ ‌السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]. وأن طريق معرفة ذلك هو الوحي وحده.

فيجب علينا: إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو أثبته له رسوله ﷺ إثباتاً يليق بجلاله من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تأويل، ولا تكييف.

وتحقيق التوحيد: هو بمعرفته، والاطلاع على حقيقته، والقيام به علماً وعملاً، وحقيقة ذلك هو انجذاب الروح أو القلب إلى الله محبة، وخوفاً، وإنابة، وتوكلاً، ودعاءً، وإخلاصاً، وإجلالا،ً وهيبة، وتعظيماً، وعبادة، وبالجملة فلا يكون في قلب العبد شيء لغير الله، وذلك هو حقيقة التوحيد، وحقيقة لا إله إلا الله.

معنى لا إله إلا الله

أي لا معبود بحق في الأرض ولا في السماء إلا الله وحده لا شريك له، لأن المعبودات الباطلة كثيرة، لكن المعبود الحق هو الله وحـده لا شريك لـه، قـال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ ‌اللَّهَ ‌هُوَ ‌الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج: 62]. وليس معناها لا خالق إلا الله، كما قد يظنه بعض الجهلة فإن كفار قريش الذين بُعث فيهم رسول الله ﷺ كانوا يقرون بـأن الخالـق المدبـر هو الله -تعالى- ولكنهم أنكروا أن تكون العبادة كلها لله وحده لا شريك له، كما في قوله تعالى عنهم: ﴿‌أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5]، ففهموا من هذه الكلمة أنها تبطل عبادة أي أحد من دون الله وتحصر العبادة لله وحده، وهم لا يريدون ذلك، فلذلك حاربهم رسول الله ﷺ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقوموا بحقها، وهو إفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له.

وبهذا يبطل ما يعتقده المبتدعة من أن معنى لا إله إلا الله: هو الإقرار بأن الله موجود، أو أنه هو الخالق القادر على الاختراع، وأشباه ذلك، وأن من اعتقد ذلك فقد حقق التوحيد المطلق، ولو فعل ما فعل من عبادة غير الله، ودعاء الأموات، والتقرب إليهم بالنذور وبالطواف بقبورهم.

لقد عرف كفار قريش من قبل أن لا إله إلا الله تقتضي ترك عبادة ما سوى الله، وإفراد الله بالعبادة، وأنهم لو قالوها واستمروا على عبادة الأصنام، لتناقضوا مع أنفسهم، وهم يأنفون من التناقض، أما من يقول: لا إله إلا الله، ثم ينقضها بدعاء الأموات من الأولياء والصالحين، والتقرب إلى أضرحتهم بأنواع من العبادات فهو جاهل لمعنى كلمة التوحيد، عامل بما يناقض مقتضاها.

ولقد جاءت الأحاديث الكثيرة التي تبيّن أن معنى لا إله إلا الله هو: البراءة من عبادة ما سوى الله من الشفعاء والأنداد، وإفراد الله بالعبادة؛ فهذا هو الهدى ودين الحق، الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، أما قول الإنسان لا إله إلا الله من غير معرفة بمعناها، ولا عمل بمقتضاها، أو دعواه أنه من أهل التوحيد وهو لا يعرف التوحيد، بل ربما يخلص لغير الله في عبادته؛ من الدعاء، والخوف، والذبح، والنذر، والاستغاثة، والتوكل، وغير ذلك من أنواع العبادات؛ فإن هذا نقض للتوحيد، وصاحبه مشرك.

قال ابن رجب: فإن تحقق القلب بمعنى لا إله إلا الله، وصدقه فيها، وإخلاصه، يقتضي أن يرسخ فيه تأله الله وحده، إجلالاً، وهيبة، ومخافة، ومحبة، ورجاء، وتعظيماً، وتوكلاً، ويمتلئ بذلك، وينتفي عنه تأله ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك لم تبق فيه محبة، ولا إرادة، ولا طلب لغير ما يريد الله ويحبه ويطلبه، وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء النفس وإرادتها، ووسواس الشيطان.

فمن أحب شيئا، وأطاعه، وأحب عليه، وأبغض عليه، فهو إلهه، فمن كان لا يحب ولا يبغض إلا الله، ولا يوالي ولا يعادي إلا لله، فالله إلهه حقاً، ومن أحب لهواه وأبغض له، ووالى عليه وعادى عليه فإلهه هواه كما قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ ‌مَنِ ‌اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الفرقان: 43].

فضل كلمة الإخلاص

لقد اجتمع لكلمة الإخلاص فضائل جمة، وثمرات عديدة، ولكن هذه الفضائل لا تنفع قائلها بمجرد النطق بها فقط، ولا تتحقق إلا لمن قالها مؤمناً بها عاملاً بمقتضاها، ومن أعظم فضائلها أن الله حرم على النار من قالها يبتغي بذلك وجه الله. كما في حديث عتبان أن رسول الله -ﷺ- قال: “إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله” [متفق عليه]. وغير ذلك من الأحاديث التي تبين أن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله. لكن هذه الأحاديث جاءت مقيدة بالقيود الثقال. إنَّ مَن يقول كلمة الإخلاص تقليداً دون أن يخالط الإيمان بشاشة قلبه لا يمكن أن يقال إنه قالها مخلصاً بها لله.

وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث، فإن ثمرتها مشروطة بأن يقولها بإخلاص ويقين تام وهذا معنى قوله: (يبتغي بذلك وجه الله)، ومن ثَم فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، وإذا كان الله أحب إليه من كل شيء كان محباً لمحبوباته وأوامره، مبغضاً لمنهياته، مسارعاً بالامتثال والانقياد.

أركانها

 للشهادة ركنان: نفي في قوله: “لا إله”. إثبات في قوله: “إلا الله”.

(فلا إله) نفت الألوهية عن كل شيء سوى الله، (وإلا الله) أثبتت الألوهية لله وحده لا شريك له.

 

شروط لا إله إلا اللّه

ذكر العلماء لكلمة الإخلاص شروطاً سبعة، ولا تصح إلا إذا اجتمعت، واستكملها العبد، والتزمها بدون مناقضة لشيء منها، وليس المراد من ذلك عدّ ألفاظها وحفظها، فكم من حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم، وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها! وهذه الشروط هي:

1) العـلم

والمراد به: العلم بمعناها نفياً وإثباتاً، وما تستلزمه من عمل، فإذا علم العبد أن الله -عز وجل- هو المعبود وحده، وأن عبادة غيره باطلة، وعمل بمقتضى ذلك العلم فهو عالم بمعناها، وضد العلم الجهل، بحيث لا يعلم وجوب إفراد الله بالعبادة، بل يرى جواز عبادة غير الله مع الله، قال تعالى: ﴿‌فَاعْلَمْ ‌أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19]. وقال تعالى : ﴿إِلَّا ‌مَنْ ‌شَهِدَ ‌بِالْحَقِّ﴾ [الزخرف: 86] أي بلا إله إلا الله ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم. وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة“.

2) اليقيـن

وهو أن ينطق بالشهادة عن يقين يطمئن قلبه إليه، دون تسرب شيء من الشكوك التي يبذرها شياطين الجن والإنس، بل يقولها موقناً بمدلولها يقيناً جازماً. فلا بد لمن أتى بها أن يوقن بقلبه ويعتقد صحة ما يقوله من أحقية إلهية الله -تعالى- وبطلان إلهية من عداه، وأنه لا يجوز أن يُصرف لغيره شيء من أنواع التأله والتعبد، فإن شك في شهادته أو توقف في بطلان عبادة غير الله، كأن يقول: أجزم بألوهية الله ولكنني متردد ببطلان إلهية غيره؛ بطلت شهادته، ولم تنفعه، قال تعالى: ﴿‌إِنَّمَا ‌الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15]. فاشترط في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا ، أي لم يشكوا ، فأما المرتاب فهو من المنافقين . وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ” أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة

3) القبول

القبول يعني: لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه ، قال تعالى ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ‌يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الصافات: 35]، استكبروا عن قول لا إله إلا الله، فلم ينفوا ما نفته ولم يثبتوا ما أثبتته. وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير . وأصاب منها طائفة أُخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأً ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذللك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلت به ” .

4) الانقياد

وذلك بأن ينقاد لما دلت عليه كلمة الإخلاص، وهو الاستسلام والإذعان، قال تعالى: ﴿‌وَأَنِيبُوا ‌إِلَى ‌رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ [الزمر: 54]. وإذا علم أحد معنى لا إله إلا الله، وأيقن بها، وقبلها، ولكنه لم ينقد، ولم يذعن، ولم يستسلم ولم يعمل بمقتضى ما علم؛ فإن ذلك لا ينفعه.

5) الصدق

وهو أن يقولها صدقاً من قلبه يواطىء قلبه لسانه، وضد الصدق الكذب، فإن كان العبد كاذباً في إيمانه؛ لا يعد مؤمناً بل هو منافق، وإن نطق بالشهادة بلسانه، فإن هذه الشهادة لا تنجيه. وفي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي لله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم “ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار“. 

6) الإخلاص

وهو تصفية الإنسان عمله بصالح النية عن جميع شوائب الشرك، وذلك بأن تصدر عنه جميع الأقوال والأفعال خالصة لوجه الله، وابتغاء مرضاته، ليس فيها شائبة رياء أو سمعة، أو قصد نفع، أو غرض شخصي، أو الاندفاع للعمل لمحبة شخـص أو مذهب، قال تعالى: ﴿‌أَلَا ‌لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 3]. وقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ ‌مُخْلِصِينَ ‌لَهُ ‌الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]، وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه

وضد الإخلاص: الشرك والرياء ابتغاء غير وجه الله، فإن فقد العبد أصل الإخلاص فإن الشهادة لا تنفعه، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ ‌لَا ‌يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48] 

7) المحـبة

أي المحبة لهذه الكلمة العظيمة ولما دلت عليه واقتضته؛ فيحب الله ورسوله ﷺ، ويقدم محبتهما على كل محبة، ويقوم بشروط المحبة ولوازمها، فيحب الله محبّة مقرونة بالإجلال والتعظيم، والخوف والرجاء، ومن المحبة تقديم محبوبات الله على محبوبات النفس وشهواتها ورغباتها، ومن المحبة -أيضاً- أن يكره ما يكرهه الله، فيكره الكفار لكفرهم ويبغضهم، ويعاديهم، ويكره الكفر والفسوق والعصيان، وعلامة هذه المحبة؛ الانقياد لشرع الله، واتباع محمد ﷺ، قال تعالى: ﴿قُلْ ‌إِنْ ‌كُنْتُمْ ‌تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]. وفي الصحيحين من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين” . ومما ينافي المحبة: بغض الرسول ﷺ وموالاة أعداء الله، ومعاداة أولياء الله المؤمنين.

معنى شهادة أنّ محمداً رسول الله

معناها: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فلا بد للمسلم من تحقيق أركان تلك الشهادة، فلا يكون كامل الشهادة له بالرسالة من قالها بلسانه وترك أمره، وارتكب نهيه، وأطاع غيره، أو تعبّد الله بغير شريعته، قال ﷺ : “‌مَنْ ‌أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ” [متفق عليه]، وقال ﷺ : «‌مَنْ ‌أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد» [متفق عليه].

ومن مقتضى هذه الشهادة -أيضاً- أن لا يعتقد أن لرسول الله ﷺ حقاً في الربوبية، وتصريف الكون، أو حقاً في العبادة، بل هو ﷺ عبد لا يُعبد، ورسول لا يُكذب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً من النفع والضر إلا ما شاء الله. 

(2) الإسلام والإيمان وأركانهما

تعريف الإسلام

الإسلام هو الإذعان لله -تعالى- وتسليم العقل والقلب لعظمة الله وكماله ثم الانقياد له بالطاعة وتوحيده بالعبادة والبراءة من الشرك وأهله، والإسلام بمعناه الخاص: هو عَلَم على رسالة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم واتباع شريعته.

مفهوم العبادة في الإسلام

هي -بالمعنى العام -كلمة جامعة شاملة لكل ما يحبه الله تعالى من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.

أركان الإسلام

هي أصوله وأساساته العملية، التي لا يصح إلاّ بها وهي أركان تعبدية يفعلها المسلم استجابة لأمر الله وامتثالاً لشرعه قد نعلم بعض حكمها وفوائدها، وربما نجهل الكثير منها.

الركن الأول: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله

ومعنى شهادة أن لا اله إلا الله: الإقرار واليقين بأن الله -تعالى- وحده المستحق للعبادة والطاعة المطلقة، وأنه -تعالى- هو الرب المتصرف في الكون وبيده وحده مقاليد السموات والأرض.

فمن شهد أن إله إلاّ الله فقد أعلن الإذعان المطلق لله -تعالى- والتسليم له وحده بالعبادة والطاعة والتقديس والخضوع. وأعلن البراءة من كل ما يعبد ويقدس سوى الله -تعالى-، وأنّ كل آلهة يعبدها الناس من إنسان أو حيوان أو ملك أو جماد أو فكر أو شهوة أو مبدأ أو منهج ونحوه فهي باطلة.

ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله: الإقرار له بأنه رسول الله -تعالى- إلى الناس جميعا بشيرا لمن أطاعه، ونذيرا لمن عصاه، ليخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الضلالة إلى الهداية ومن التيه إلى النهج القويم، وأنزل معه الكتاب «القرآن» مهيمنا على الكتب وناسخا لها ومشتملا على المنهاج الكامل عقيدة وشريعة، به سعادة البشرية، ذلك الكتاب المحفوظ المعجز.

وجعل الله سنة الرسول ﷺ وهي: أقواله وأفعاله وتقريراته تشريعا تجب طاعته والتزامه بأمر الله قال سبحانه: ﴿‌وَمَا ‌آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7] 

ومن مستلزمات شهادة أن محمداً رسول الله، الإقرار بأنه خاتم الرسل وأنه يجب على جميع البشرية اتباعه، لقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا ‌كَافَّةً ‌لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28]، وقوله ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا ‌يَسْمَعُ ‌بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» [رواه مسلم]

التلازم بين ركني الشهادة: لا يصح الإيمان بالله والإقرار له بالعبودية إلاّ بالإيمان برسوله ﷺ، واتباعه في جميع شؤون الحياة. لأنّ الله -تعالى- أمرنا بذلك، وجعل طاعته وعبادته لا تستقيم وتصح إلاّ من خلال شرعه الذي أنزل على رسوله، فقال تعالى: ﴿‌وَأَطِيعُوا ‌اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ [المائدة: 92]  

الركن الثاني: الصلاة

وهي صلة بين العبد وربه تقام خمس مرات في اليوم والليلة على هيئة مخصوصة في أوقات مخصوصة، شرعها الله، فيتوجه بها الإنسان إلى ربه مستقبلا القبلة «جهة مكة» خاشعا لله -تعالى-.

ومن حكمتها : ربط الإنسان الضعيف المحتاج بربه -تعالى- الغني القوي، وتحريره من عناء الدنيا ومتاعب الحياة في أوقات معينة يناجي فيها ربه ويتوجه إليه معظّماً له طالباً منه العون، قائلا: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين.

فالصلاة صلة بالله العلي الكبير الحي القيوم، يستمد منها القلب قوة وتستمد منها النفس طمأنينة، وتستمد منها الروح سعادة وهناء. وكان النبي ﷺ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وقال: ‌(حُبب ‌إلي ‌من ‌دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة) [رواه أحمد وصححه الألباني].

فالصلاة الخاشعة تكسب صاحبها الأمن والسعادة الغامرة، والطمأنينة والسكون، وقوة الاعتماد على الله، واستمداد العون منه – تعالى- ومن ثم يشعر المسلم فيها بلذة تفوق اللذات {‌وَاسْتَعِينُوا ‌بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]

الركن الثالث: الزكاة

ومعناها دفع نسبة من المال في أنواع من الممتلكات أوجبها الله -تعالى – تُدفع لأصناف من المجتمع، وبها تحصل منافع كثيرة للمجتمعات والأفراد والدول من التكافل الاجتماعي وشيوع التآلف والقضاء على مظاهر الشح والبخل والحسد والحقد.

الركن الرابع: الصيام

ومعناه: التعبد لله تعالى بالإمساك عن الطعام والشراب والجماع وما في حكمها من الفجر إلى غروب الشمس خلال شهر رمضان. وللصيام فوائد وحكم معنوية ومادية، منها ترويض النفس وتعويدها على الانضباط والصبر، وللصيام فوائد صحية كثيرة أقرَّ بها الطب حينما يتخفف الإنسان من الطعام والشراب بعض الوقت، كما أن الصوم يصفي القلوب ويعمرها بالإيمان والتقوى واليقين، ولا سيما وهو عمل غالبا ما يكون بين العبد وربه. والصيام يشعر معه المسلم بالصفاء والنقاء والسعادة، ويقوى قلبه وتسمو نفسه وتسعد روحه حين يمارس هذه العبادة طاعة لله واستجابة لأمره ورغبة في وعده « ‌لِلصَّائِمِ ‌فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ » [متفق عليه]

الركن الخامس: الحج

وهو قصد بيت الله الحرام «مكة» لأداء شعائر ومناسك معلومة في وقت معلوم على هيئة حددها الشارع، لمن استطاع إليه سبيلاً، فـي العمـر مرة واحدة إلاّ لمن تطوع، عبادة لله واستجابة لشرعه، تحضره أعداد كبيرة من المسلمين من شتى بقاع العالم من كل بلد وجنس يجتمعون في مكان واحد وفي زمان واحد في مناسك متشابهة يتبادلون المصالح والمنافع الدينية والدنيوية، وتتحقق بينهم أعظم أواصر التكافل والتعاون والتناصح.

وتمثل أركان الإسلام الخمسة الأسس العملية والشعائر الظاهرة للدين، ولا يتم الدين إلاّ بمجموعها.



تعريف الإيمان ومعناه

الإيمان في اللغة: التصديق. والإيمان في الشرع: «أي المدلول الشرعي للإيمان» يشمل ثلاثة أسس:

الأول: يقين القلب وتصديقه وإذعانه.

الثاني: الإقرار باللسان.

الثالث: التطبيق العملي، بعمل الصالحات وترك المنهيات، ويطلق عليه «عمل الجوارح».

أركان الإيمان

أركان الإيمان ستة: وقد أخبر بها الرسول ﷺ عندما سأله جبريل عن الإيمان فقال: “أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره “. [رواه مسلم]

1) الإيمان بالله

  • الإقرار بربوبيته أي أنه الخالق المدبر للكون بيده مقاليد كل شيء وهو على كل شيء قدير.
  • وبإلاهيته: أي أنه -تعالى- وحده المستحق للعبادة والطاعة.
  • وبأسمائه وصفاته: أي أنه -تعالى- له الكمال المطلق والأسماء الحسنى والصفات العلى على جهة الإجمال.
  • والإيمان والإقرار بكل ما سمّى الله به نفسه أو سمّاه به رسوله ﷺ مثل: الله، الحي، القيوم، العلي، العظيم، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، العزيز، الجبار، ذو الجلال والإكرام.
  • والإيمان والإقرار بكل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ من الصفات والأفعال مثل: الرحمة، والمحبة، والرضا، والنزول، والمجيء وغيرها. كل ذلك من غير تشبيه لله بالخلق.

2) والإيمان بالملائكة

يعني: الإقرار بأن هناك خلقًا من مخلوقات الله الغيبية، والله سماهم الملائكة مكلفون عقلاء لا يعصون الله أبداً ويفعلون ما يؤمرون، ولهم أعمال ومهمات؛ كالنزول بالوحي، وإنزال المطر، وتسيير السحاب، وكتابة أعمال الإنسان، ومنهم حملة العرش، وخزنة الجنة، وخزنة النار وغيرهم. الإيمان بهم على جهة الإجمال وبمن سمي لنا منهم على جهة التفصيل مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم.

والإيمان بالملائكة يشعر المؤمن بعظمة خلق الله -تعالى- وبديع صنعه وشرعه وبالطمأنينة والأمن النفسي، وبالرقابة التي تجعله يلتزم الخير والفضيلة ويكف عن الشر والرذيلة. 

3) الإيمان بالكتب

معناه أن الله -تعالى- أنزل عن طريق الرسل كتبا على الأمم تضمنت ما شرعه الله –تعالى- من التوحيد والعبادة والأحكام التي تنظم حياة الناس وتصلهم بربهم -عز وجل- على نهج يرضي الله -تعالى-، وتضمن لهم السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة.

ومن هذه الكتب: التوراة والإنجيل والزبور، ونسخت بالقرآن الذي أنزل الله إلى محمد ﷺ وهو باق معجز محفوظ، اشتمل على نهج كامل لحياة الناس أممًا وأفرادًا إلى قيام الساعة ولا سعادة لهم إلاّ باتباعه.

4) الإيمان بالرسل

وهو الإقرار بأن الله -تعالى- بعث رسلا من البشر اختارهم لإبلاغ ما يريده الله من الأمم من عبادته واتباع شرعه، مبشرين ومنذرين، آخرهم وخاتمهم محمد ﷺ وهو رسول لجميع الأمم لا يسع أحدًا من الناس إلاّ اتباعه فمن أطاعه واتبع شرعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار.

5) الإيمان باليوم الآخر

الإقرار بأن هناك حياة أخرى هي الحياة الحقيقية غير هذه الحياة الدنيا يكون فيها للناس الخلود الأبدي السرمدي، بعد أن يبعثهم الله يوم القيامة ويجازيهم على أعمالهم فمن اتبع الرسل -صلى الله عليهم وسلم- وأطاعهم دخل الجنة، ومن أعرض وعصى دخل النار.

والإيمان باليوم الآخر يتضمن عذاب القبر ونعيمه بحسب عمل الإنسان والبعث والحشر والحساب، والميزان، والصحف، والصراط، والحوض، والجنة ونعيمها، والنار وعذابها، وغير ذلك مما أخبر الله عنه ورسوله ﷺ.

6) الإيمان بالقدر

والمراد به أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل مخلوق فهو صادر عن علمه وقدرته وإرادته. ما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، بيده ملكوت كل شيء. يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، خلق الخلق، وقدر أعمالهم وأرزاقهم وحياتهم وموتهم.

فالإيمان بالقدر يبعث في النفس اليقين والرضا، والطمأنينة، والأمن، والسعادة، والركون إلى الله العلي العظيم.

الخلاصة

الإسلام هو دين الله الخاتم الذي ارتضاه الله لجميع البشرية، وكلفهم جميعا باتباعه واتباع رسوله ﷺ، قال الله تعالى: ﴿‌وَمَنْ ‌يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85] 

وتضمن الإسلام من العقيدة والشريعة ما يضمن للبشرية جميعا في كل مكان وكل زمان: السعادة والأمن، والسلام والخير في الدنيا، والنجاة والفوز بالجنة في الآخرة.

خلق الله سبحانه الثقلين لعبادته، ولا يمكن أن تعرف هذه العبادة إلا بمعرفة الفقه الإسلامي وأدلته، وأحكام الإسلام وأدلته، ولا يكون ذلك إلا بمعرفة العلماء الذين يعتمد عليهم في هذا الباب من أئمة الحديث والفقه الإسلامي.

تعريف الفقه:

الفِقْهُ في اللغةِ هُوَ: الفَهْمُ، ومنه دعاء النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس: (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ). [متفق عليه] [“تهذيب اللغة” (5/ 263)].

وفي الاصطلاح: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.

لقد مر الفقه الإسلامي بعدة مراحل وأدوار، كان منها دور ظهور المذاهب الفقهية وذلك في أوائل القرن الثاني الهجري، وفي هذا الدور ظهر نوابغ الفقهاء.

وهذه المذاهب الأربعة ليست تجزئة للإسلام ولا إحداث تشريع جديد، وإنما هي مناهج لفهم الشريعة، وأساليب في تفسير نصوصها، وطرق في استنباط الأحكام من مصادرها.

وهذه المذاهب هي:

  • المذهب الحنفي، نسبة للإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله، المولود سنة 80هـ والمتوفى سنة 150هـ.
  • المذهب المالكي، نسبة إلى للإمام مالك بن أنس رحمه الله، المولود سنة 93هـ والمتوفى سنة 179هـ.
  • المذهب الشافعي، نسبة للإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، المولود سنة 150هـ والمتوفى سنة 204هـ.
  • المذهب الحنبلي، والمنسوب إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، المولود سنة 164هـ والمتوفى سنة 241هـ.

ولا يجب التزام مذهب معين منها، وإنما الذي يجب أن يلتزم هو الكتاب والسنة وحيث ظهر الدليل فهو المعول، ولا يجوز العدول عنه إلى قول أحد كائناً من كان.

مصادر التشريع الإسلامي:

تنقسم المصادر من حيث الاتفاق عليها إلى قسمين: 

القسم الأول: مصادر متفق عليها بين جماهير أهل السنة والجماعة، وهي أربعة :

  • الكتاب: وهو أول مصادر التشريع، وأهم هذه المصادر، وهو عمدة الشريعة، وأصل أدلتها، وإن مصادر التشريع جميعها ترجع إليه، إما لأنها راجعة إليه في البيان والتوضيح، وإما لأنها تعتبر حجة ومصدرًا لدلالة القرآن الكريم عليها.
  • السنة: وتعتبر السنة مصدرًا ثانيًا بعد القرآن الكريم، ولكنها تشتمل على كثرة الفروع، وزيادة التفصيل، ودقة التنظيم التشريعي؛ لأنها جاءت شارحة للقرآن الكريم، ومفصلة لقواعده الكلية التي جاءت في محكم آياته.
  • الإجماع: فإنَّ مما فضل الله به هذه الأمة وميزها به على سائر الأمم: أن إجماع علمائها على أمر من أمور دينها معصومٌ من الزلل والخطأ.
  • القياس: وهو ذو أهمية خاصة؛ لأن النصوص متناهية والوقائع غير متناهية، ولا يمكن أن يحيط المتناهي بغير المتناهي، فتظهر ضرورة القياس الحتمية في التشريع، وقد سد هذا المصدر بابًا كبيرًا في بيان الأحكام، وتمت صلاحية الشريعة به لخلودها وصلاحها لكل زمان ومكان، وأن هذه النصوص المحكمة والقواعد العامة والأصول الثابتة دلت على الأخذ بالقياس، وأنه دليل على حكم الله تعالى.

وقال ابن تيمية رحمه الله: “إذا قلنا الكتاب والسنة والإجماع، فمدلول الثلاثة واحد، فإن كل ما في الكتاب فالرسول موافق له، والأمة مجمعة عليه من حيث الجملة، فليس في المؤمنين إلا من يوجب اتباع الكتاب، وكذلك كل ما سنَّه الرسول صلى الله عليه وسلم فالقرآن يأمر باتباعه فيه، والمؤمنون مجمعون على ذلك ، وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون ، فإنه لا يكون إلا حقا موافقا لما في الكتاب والسنة” انتهى. [“مجموع الفتاوى” (7/40)].

القسم الثاني: المصادر المختلف فيها، وهي كثيرة منها: الاستصحاب، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستحسان، والمصالح المرسلة. وهي تابعة للكتاب والسنة وراجعة إليهما.

 

* المصادر:

كتاب الوجيز في أصول الفقه الإسلامي لمحمد مصطفى الزحيلي، خطب الشيخ ابن باز رحمه الله، موقع الإسلام سؤال وجواب، موقع إسلام ويب.

محتوى أكورديون

الدعوة إلى الله، وإلى دين الله – الإسلام- وإلى ما أعد الله لمن استجاب لهذه الدعوة المباركة: أمر عظيم تولاه الله سبحانه وتعالى بنفسه، وأرسل به رسله مبشرين ومنذرين، يدعون الناس إلى كل خير وينهونهم عن كل شر، يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله، وأقام من بعدهم عباده الصالحين من ورثة الأنبياء الصادقين، الذين جعلهم حجة على الناس في كل وقت وحين، ينشرون دين الله بين الأنام ويدعونهم إلى الجنة دار السلام، فكم من أرض أناروها بنور الإسلام، وكم من أمم أخرجوها من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأولئك هم المفلحون.

قال تعــالى: ﴿‌وَاللَّهُ ‌يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: 25] فالله يدعو الناس جميعاً إلى جنات النعيم، وذلك باستجابتهم له وإيمانهم به واستقامتهم على صراطه المستقيم، “فعم بالدعوة إليها، وخص بالهداية لها من يشاء، فذاك عدله وهذا فضله” (إعلام الموقعين- ابن قيم الجوزية – 1/153).

وقالت رسل الله لأقوامهم يذكرونهم بدعوة الله لهم: ﴿‌قَالَتْ ‌رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [إبراهيم: 10]، وقال تعالى: ﴿‌وَاللَّهُ ‌يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 221]. وروى الإمــام أحمد رحمه الله وغيره من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: ” ‌إِنَّ ‌اللهَ ‌ضَرَبَ ‌مَثَلًا ‌صِرَاطًا ‌مُسْتَقِيمًا، عَلَى كَتِفَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ، وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِهِ، {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فَالْأَبْوَابُ الَّتِي عَلَى كَتِفَيِ الصِّرَاطِ: حُدُودُ اللهِ، لَا يَقَعُ أَحَدٌ فِي حُدُودِ اللهِ، حَتَّى يُكْشَفَ سِتْرُ اللهِ، وَالَّذِي يَدْعُو مِنْ فَوْقِهِ: وَاعِظُ اللهِ” (حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده)، والدعوة دعوة الله والدين دينه فمن أجاب دعوته واستمسك بدينه غفر ذنبه وكفر سيئاته وأدخله جنات النعيم، ومن لم يجبه عاقبه وعذبه.

الدعوة إلى الله عمل الأنبياء:

والدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء، فقد أوجب عليهم ذلك، بل ابتعثهم من أجله وكلفهم تبليغ دينه إلى الناس وجعله أهم الواجبات المنوطة بهم بعد الإيمان به.

وقد قام رسل الله عليهم الصلاة والسلام بذلك أفضل قيام، وبلغوا رسالات ربهم أتم بلاغ، وصدق عليهم وصف الله لهم: ﴿الَّذِينَ ‌يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: 39]. يمدح الله تبارك وتعالى الذين يبلغون رسالات الله أي إلى خلقه، ويؤدونها بأماناتها ويخشونه، أي يخافونه ولا يخافون أحداً سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد من إبلاغ رسالات الله تعالى، (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) أي وكفى بالله ناصراً ومعيناً (ابن كثير جـ3/ص500).

فهكذا كانت حال أنبياء الله لا يحسبون للخلق حساباً فيما كلفهم الله من أمور الرسالة ولا يخــشون أحداً إلا الله، ولا يخافون في الله لومة لائم، لاطمئنان قــلوبهم إلى الله -الذي أرسلهم وكلفهم- أنه سبحانه هو كافيهم وهو حسبهم ونعم الوكيل.

وقد بلغ رسل الله رسالاته إلى أقوامهم وأقاموا حجة الله عليهم فهذا نوح عليه السلام وهو أول الرسل وأول أولي العزم يقول لقومه موضحاً مهمته الرئيسة: ﴿قَالَ يَاقَوْمِ ‌لَيْسَ ‌بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 61-62]، وهذا هود عليه السلام يقول لقومه: ﴿قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ [الأعراف: 68-67]، وقال الله أيضاً حكاية عنه: ﴿‌فَإِنْ ‌تَوَلَّوْا ‌فَقَدْ ‌أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ﴾ [هود: 57]، وقال تعالى عن صالح عليه السلام: ﴿‌فَتَوَلَّى ‌عَنْهُمْ ‌وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: 79]، وقال عن شعيب عليه السلام: ﴿‌فَتَوَلَّى ‌عَنْهُمْ ‌وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 93]، وقال تعالى مبيناً مهمة الرسل ووظيفتهم الرئيسة: ﴿‌فَهَلْ ‌عَلَى ‌الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النحل: 35]. وعندما تتنكر الأمم الكافرة لدعوة أنبيائهم يوم القيامة وتنكر بلاغ رسلهم إليهم، فإن هذه الأمة خير أمة أخــرجت للناس تشــهد لأنبياء الله بتبليغهم رســالات ربهم. فعن أبي سعيد الخــدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ ‌فَيَقُولُونَ: ‌مَا ‌أَتَانَا ‌مِنْ ‌نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ” وَالوَسَطُ: العَدْلُ. (رواه البخاري).

ورواه الإمام أحمد رحمه الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً ولفظه: ” يُدْعَى نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ ‌فَيَقُولُونَ: ‌مَا ‌أَتَانَا ‌مِنْ ‌نَذِيرٍ – أَوْ مَا (1) أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ – قَالَ: فَيُقَالُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، قَالَ: الْوَسَطُ الْعَدْلُ، قَالَ: فَيُدْعَوْنَ فَيَشْهَدُونَ (2) لَهُ بِالْبَلَاغِ، قَالَ: ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ.

وأخرج ابن أبي حاتم بسند جيد عن أبي العالية عن أبي بن كعب في هذه الآية قال: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} “وَكَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‌كَانُوا ‌شُهَدَاءَ ‌عَلَى ‌قَوْمِ ‌نُوحٍ ‌وَقَوْمِ ‌هُودٍ ‌وَقَوْمِ ‌صَالِحٍ ‌وَقَوْمِ ‌شُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ رُسُلَهُمْ بَلَّغَتْهُمْ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ” (ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح وجوَّد إسناده 8/172).

ولهذا كان أنبياء الله -عليهم السلام- يخافون أشد الخوف ألا يبلغوا شيئاً من دين الله فيخسف بهم ففي حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: ” “إنَّ الله أمر يحيى بنَ زكريا بخمسِ كلماتٍ أنْ يعمل بها، ويأمرَ بني إسرائيل أنّ يعملوا بها، وإنه كادَ أن يُبطِئَ بها، قال عيسى: إنّ الله أمرك بخمسِ كلماتٍ لِتعملَ بها، وتأمرَ بني إسرائيلَ أن يعملوا بها، فإما أن تأمرَهم، وإما أن آمرَهم، فقال يحيى: أخشى إنْ سبقتني بها أن يُخسَف بي أو أُعَذَّب، فجمعَ الناسَ في بيتِ المقدس (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).

الدعوة سنة خاتم المرسلين:

وقد كان خاتم النبيين وخير أنبياء الله أجمعين محمد ﷺ أعظم رسل الله بلاغاً وبلاءً في سبيل تبليغ دعوة الله عزّ وجل إلى الناس جميعاً فهو ﷺ سيد الناس في هذا المقام، بل وفي كل مقام.. فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب وإلى الجن والإنس، وأظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع، فقد كان النبي قبله يبعث إلى قومه خاصةً، وأما هو ﷺ فإنه بعث إلى جميع الخلق عربهم وعجمهم، أسودهم وأبيضهم، جنهم وإنسهم، ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ ‌إِنِّي ‌رَسُولُ ‌اللَّهِ ‌إِلَيْكُمْ ‌جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا ‌كَافَّةً ‌لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28]، ﴿‌تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1].

وقد أمره الله سبحانه أمراً جازماً بالبلاغ فقال: ﴿‌يَاأَيُّهَا ‌الرَّسُولُ ‌بَلِّغْ ‌مَا ‌أُنْزِلَ ‌إِلَيْكَ ‌مِنْ ‌رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]، وقال تعالى: ﴿‌فَإِنْ ‌أَعْرَضُوا ‌فَمَا ‌أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى: 48]، وقال تعالى: ﴿‌وَإِنْ ‌تَوَلَّوْا ‌فَإِنَّمَا ‌عَلَيْكَ ‌الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 20]، وقال عليه الصلاة والسلام: “إنما أنا مبلغ والله يهدي..” (حديث صحيح رواه أحمد في مسنده). وفي الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها عنه عليه الصلاة والسلام قال: «‌إنما ‌بعثني ‌الله ‌مبلغًا ‌ولم ‌يبعثني متعنتًا» (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

وسماه الله سبحانه وتعالى “داعياً إلى الله”: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) ‌وَدَاعِيًا ‌إِلَى ‌اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: 45-46]، أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك.

وأمره -سبحانه- بالدعوة إلى الله في غير ما آية قال تعالى: ﴿‌ادْعُ ‌إِلَى ‌سَبِيلِ ‌رَبِّكَ ‌بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، وقال: ﴿‌وَادْعُ ‌إِلَى ‌رَبِّكَ ‌إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: 67]، وقال: ﴿‌فَلِذَلِكَ ‌فَادْعُ ‌وَاسْتَقِمْ ‌كَمَا ‌أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [الشورى: 15]، وقال تعالى عن نبيه ﷺ: ﴿‌يَاأَيُّهَا ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌اسْتَجِيبُوا ‌لِلَّهِ ‌وَلِلرَّسُولِ ‌إِذَا ‌دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24] وقال: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ ‌يَدْعُوكُمْ ‌لِتُؤْمِنُوا ‌بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الحديد: 8].

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ” جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ‌إِنَّ ‌العَيْنَ ‌نَائِمَةٌ، ‌وَالقَلْبَ ‌يَقْظَانُ، فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا، فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ‌إِنَّ ‌العَيْنَ ‌نَائِمَةٌ، ‌وَالقَلْبَ ‌يَقْظَانُ، فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ المَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ المَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ‌إِنَّ ‌العَيْنَ ‌نَائِمَةٌ، ‌وَالقَلْبَ ‌يَقْظَانُ، فَقَالُوا: فَالدَّارُ الجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ ﷺ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا ﷺ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا ﷺ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ” (رواه البخاري)

وقد أمره الله أن يقص ويعظ ويذكر فقال تعالى: ﴿‌فَذَكِّرْ ‌فَمَا ‌أَنْتَ ‌بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾ [الطور: 29]، وقال: ﴿‌وَذَكِّرْ ‌فَإِنَّ ‌الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]، وقال تعالى: ﴿ ‌فَذَكِّرْ ‌بِالْقُرْآنِ ‌مَنْ ‌يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45]، وقال ﴿وَذَكِّرْ بِهِ ‌أَنْ ‌تُبْسَلَ ‌نَفْسٌ ‌بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الأنعام: 70]، وقال: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ ‌قَوْلًا ‌بَلِيغًا﴾ [النساء: 63]، وقال تعالى: ﴿‌فَاقْصُصِ ‌الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 176]

وقد شمر ﷺ عن ساق الجد وقام بالدعوة إلى الله أتم قيام وجاهد في ذلك أعظم الجهاد، وابتلي أعظم البلاء فصبر أعظم صبر عرفته الإنسانية حتى قال عليه الصلاة والسلام «لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ ‌إِلَّا ‌شَيْءٌ ‌يُوَارِيهِ ‌إِبْطُ ‌بِلَالٍ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

ولما نزل عليه قول الله: ﴿‌يَاأَيُّهَا ‌الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 1-4] شمّر عن ساق الجدّ وقام في ذات الله أتم قيام، ودعا إلى الله ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً ولما نزل قوله تعالى: ﴿‌فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94] صدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم، فدعا إلى الله الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والأحمر والأسود، والجن والإنس، ولما صدع بأمر الله، وصدع لقومه بالدعوة وناداهم بسب آلهتهم، وعيب دينهم، اشتد أذاهم له، ولمن استجاب له من أصحابه، ونالوهم بأنواع الأذى، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه كما قال: ﴿‌مَا ‌يُقَالُ ‌لَكَ ‌إِلَّا ‌مَا ‌قَدْ ‌قِيلَ ‌لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ [فصلت: 43]، وقال: ﴿‌وَكَذَلِكَ ‌جَعَلْنَا ‌لِكُلِّ ‌نَبِيٍّ ‌عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112]، وقال: ﴿‌كَذَلِكَ ‌مَا ‌أَتَى ‌الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الذاريات: 52-53].

وقد كان ﷺ يغشى مجامع الناس وأسواقهم يدعوهم إلى الله ويطلب منهم من يؤويه حتى يبلغ رسالة الله، وتكون له الجنة، فما يجد منهم أحداً، حتى يسّر الله له الأنصار، فآمنوا به ونصروه وعزروه على أن لهم الجنة. روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال مَكَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بعُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ، وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى، يَقُولُ: ” مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ ” حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ، أَوْ مِنْ مِصْرَ – كَذَا قَالَ – فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ، فَيَقُولُونَ: احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ، لَا يَفْتِنُكَ، وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ، وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، حَتَّى بَعَثَنَا اللهُ لَهُ مِنْ يَثْرِبَ، فَآوَيْنَاهُ، وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ ائْتَمَرُوا جَمِيعًا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟ فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلًا حَتَّى قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، علَامَ نُبَايِعُكَ، قَالَ: ” تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ، لَا تَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي، فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ، وَأَزْوَاجَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ “، قَالَ: فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ”. (رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح)

ثم لم يزل رسول الله ﷺ داعياً إلى الله يعلم أمته الخير ويزكيهم ويعظهم ويأمرهم بكل معروف وينهاهم عن كل منكر حتى ما ترك خيراً إلا ودلهم عليه ولا منكراً إلا وحذرهم منه، وما ترك أمراً كان أو هو كائن إلا وعندهم منه ذكر، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ” تركنا رسول الله ﷺ ‌وما طائر ‌يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما. قال: فقال رسول الله ﷺ: “ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم” (رواه الطبراني في الكبير1647).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “قَامَ فِينَا النَّبِيُّ ﷺ ‌مَقَامًا، ‌فَأَخْبَرَنَا ‌عَنْ ‌بَدْءِ ‌الخَلْقِ، حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ” (رواه البخاري).

وعن أبي زيد عمرو بن أخطب رضي الله عنه قال: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ الْفَجْرَ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ‌فَأَخْبَرَنَا ‌بِمَا ‌كَانَ ‌وَبِمَا ‌هُوَ ‌كَائِنٌ» ‌فَأَعْلَمُنَا ‌أَحْفَظُنَا (رواه مسلم).

وجاهد عليه الصلاة والسلام أعظم الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله ولم يزل كذلك مجاهداً داعياً إلى عبادة ربه، وحده لا شريك له، حتى ظهر دين الله، وتمت كلمته الحسنى وأعلن توحيده وذكره في المشارق والمغارب وصارت كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر، وشرعه هو الشائع وصار الدين كله لله، والطاعة كلها لله، وانحسرت الفتنة والشرك ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فجعل الله ذلك علامة على دنو أجله ﷺ وقرب مماته، فأمر حينئذ بالتهيؤ للقاء الله ثم قبض عليه الصلاة والسلام في أطيب حال قبض فيها بشر، فطاب حياً وميتاً ﷺ صلاةً وسلاماً دائمين فإنه قد نصح الأمة وبلغ رسالة ربه وجاهد في الله حق جهاده، ولم يمت عليه الصلاة والسلام إلا وقد استشهد أمته على تبليغه إياهم دعوة الله، واستشهد الله عليهم ففي أكبر مجمع شهده المسلمون في حياته ﷺ ­في حجة الوداع في يوم عرفة­ قال: وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: ‌نَشْهَدُ ‌أَنَّكَ ‌قَدْ ‌بَلَّغْتَ ‌وَأَدَّيْتَ ‌وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (رواه مسلم)، ثم كرر ذلك يوم النحر فقال: “ألا هل بلغت ألا هل بلغت” (رواه البخاري).

بل شهـد له بالبلاغ ألد أعدائه -اليهود- فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي المَسْجِدِ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: «انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ» فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ المِدْرَاسِ، فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ فَنَادَاهُمْ: «يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا» فَقَالُوا: ‌قَدْ ‌بَلَّغْتَ ‌يَا ‌أَبَا ‌القَاسِمِ، فَقَالَ: «ذَلِكَ أُرِيدُ» ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ، فَقَالُوا: ‌قَدْ ‌بَلَّغْتَ ‌يَا ‌أَبَا ‌القَاسِمِ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ…) (متفق عليه).

وقد استخدم رسول الله ﷺ في دعوته وسائل عدة منها:

  • الوعظ والقصص والتذكير ومخاطبة الناس في مجامعهم وتلاوة الآيات عليهم.
  • الدعوة الفردية.
  • التعليم والتزكية. قال تعالى: ﴿‌رَبَّنَا ‌وَابْعَثْ ‌فِيهِمْ ‌رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 129]، وقال تعالى: ﴿‌كَمَا ‌أَرْسَلْنَا ‌فِيكُمْ ‌رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 151]، وقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ ‌عَلَى ‌الْمُؤْمِنِينَ ‌إِذْ ‌بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164]، وقال تعالى: ﴿‌هُوَ ‌الَّذِي ‌بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2]، فقدم سبحانه التزكية على التعليم في ثلاثة مواضع لأن التزكية هي مقصود التعليم وأما في الموضع الأول في سورة البقرة فلم يقدمها لأن ذلك حكاية قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
  • إرسال الرسل إلى البلاد ليعلموهم دين الله عز وجل فأرسل مصعب بن عمير إلى المدينة ومعاذاً إلى اليمن وأبا موسى الأشعري وعلي بن أبي طالب كذلك إلى اليمن وغيرهم إلى بلدان أخرى.
  • إرسال الكتب إلى الملوك يدعوهم إلى الله عز وجل. عن أنس رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَبَ إِلَى كِسْرَى ‌وَإِلَى ‌قَيْصَرَ ‌وَإِلَى ‌النَّجَاشِيِّ وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)
  • استقبال الوفود، فكان عليه الصلاة والسلام يستقبل الوفود يدعوهم إلى الله ويعلمهم دينه ويأمرهم بإنذار من خلفهم من أقوامهم.
  • تأليف الناس ببذل المال ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: “ما سئل رسول الله ﷺ شيئاً قط فقال: لا” (رواه مسلم). وعن أنس عن مالك رضي الله عنه قال: “ما سئل رسول الله ﷺ على الإسلام شيئاً إلا أعطاه قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً من لا يخشى الفاقة فقال أنس: إن الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها” (رواه مسلم). وروى مسلم “أنـه عليه الصـلاة والسلام أعطى صفوان بن أمية -يوم حنين- مائة من النعم، ثم مائة، ثم مائة. قال ابن شهاب حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله ﷺ ما أعطاني وإنه لأبغــض الناس إليَّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحــب النـــاس إليَّ” (رواه مسلم).
  • كان عليه الصلاة والسلام يتألف الناس -أيضاً- بالعفو والصفح والخلق الحسن.
  • الجهاد في سبيل الله عز وجل: وهو أعظم الوسائل التي استخدمها ﷺ في الدعوة إلى الله عز وجل، وهو من أعظم وسائل الدعوة الباقية إلى يوم القيامة، والمقصود من الجهاد إقامة دين الله على وجه الأرض ونفي الفتنة والشرك عنها واقتلاع جذور الطواغيت الذين يحولون بين الحق والناس؛ قال تعالى:  ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا ‌تَكُونَ ‌فِتْنَةٌ ‌وَيَكُونَ ‌الدِّينُ ‌كُلُّهُ ‌لِلَّهِ﴾ [الأنفال: 39].

وقد كان قتاله ﷺ كله جهاداً لإعلاء كلمة الله ودعوة للخير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “ما قاتل رسول الله ﷺ قوماً حتى يدعوهم” (رواه أحمد في المسند بإسناد صحيح)، وقال لعلي رضي الله عنه عندما بعثه في غزوة خيبر: فَقَالَ: «‌انْفُذْ ‌عَلَى ‌رِسْلِكَ ‌حَتَّى ‌تَنْزِلَ ‌بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» (متفق عليه)، وفي حديث بريدة: (كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، ‌أَوْصَاهُ ‌فِي ‌خَاصَّتِهِ ‌بِتَقْوَى ‌اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ – أَوْ خِلَالٍ – فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُم..) (رواه مسلم).

فالجهاد ضرورة للدعوة سواءً أكانت دار الإسلام آمنة أم مهددة من جيرانها، فالإسلام حين يسعى إلى السلم، لا يقصد أن يؤمن الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية، إنما هو يريد السلم التي يكون الدين فيها كله لله، أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله، والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.

إن للعلم في الإسـلام شأنا، ويكفي للدلالة على منزلته أنه صـفة من صفات الله جل جلاله: ﴿‌وَهُوَ ‌السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 137]، وأنه سبحانه قد أمر به قبل العمل: ﴿‌فَاعْلَمْ ‌أَنَّهُ ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19]، وما ذلك إلا لأن صحة العمل مرهونة به، وقد أمر جل جلاله الرسول ﷺ بطلب الاستزادة منه فقال ﴿‌وَقُلْ ‌رَبِّ ‌زِدْنِي ‌عِلْمًا﴾ [طه: 114]، وقد استفاض حديث القرآن الكريم عن العلم حيث وردت مادة علم فيه أكثر من سبعمائة مرة، كذلك لم يخل كتاب من كتب السنة من كتاب موضوعه العلم (د. سعد عبد الرحمن الجريد، رسالة دكتوراة)، ولهذه المنزلة العالية كان طلبه فريضة كما أخبر الرسول ﷺ في قوله: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” (أخرجه ابن ماجه في سننه وحسنه الألباني)، ومن هذا الفرض ما يكون فرض عين ومنه ما يكون فرض كفاية، فكل ما يحتاج إليه لصحة العبادة فهو فرض عين؛ فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب -حسب القاعدة الأصولية المقررة- وماعدا ذلك من سائر العلوم التي نحتاج إليها في إقامة حياة سوية فإن تعلمه على الكفاية أي أنه لابد أن يكون في المسلمين من يعلمه بالقدر الذي يسد حاجتهم إليه وإلا أثم المسلمون جميعاً (نحو منهجية إسلامية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، دار المسلم، ط1 1415 ص 14 -21 – 23).

وهذا الاهتمام البالغ بالعلم وبهذه الصورة إنما يمثل المكانة الحقيقية للعلم. ويبرز أثره في الحياة، فالحياة التي لا تؤسس على العلم الشرعي حياة عديمة الفائدة، والإسلام الذي ينزل العلم هذه المنزلة هو دين العلم، ودين النقل والعقل، “وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ ‌لَمْ ‌يُوَرِّثُوا ‌دِينَارًا ‌وَلَا ‌دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ “. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وحسنه الألباني). ولهذا كانت أبرز خصائص الدعوة إلى الله هو قيامها على البصيرة أي العلم: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي ‌أَدْعُو ‌إِلَى ‌اللَّهِ ‌عَلَى ‌بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].

وأبرز خصائص هذه البصيرة مصاحبة العمل لها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌وَعَمِلُوا ‌الصَّالِحَاتِ ‌كَانَتْ ‌لَهُمْ ‌جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ [الكهف: 107]، وما يُلحظ هذه الأيام من انفصال للعلم عن العمل هو من مظاهر الخلل في حياة المسلمين التي ربما كانت سببا في ظاهرة انفصال العلماء عن الحياة في كثير من بلدان المسلمين حيث ترتب على ذلك ما ترتب عليه من مظاهر الانحراف وأظهرها معايشة هموم الناس ومشكلاتهم، وقضاياهم من قبل من ليس لديه علم.

قال ابن عبد البر “قد اجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصة نفسه، من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه نحو الشهادة “باللسان” والإقرار بالقلب بأن الله وحده لا شريك له، والشهادة بأن محمداً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، وأن البعث بعد الموت حق للمجازاة بالأعمال والخلود في الآخرة لأهل السعادة بالإيمان والطاعة في الجنة، ولأهل الشقاوة والكفر والجحود في السعير، وأن القرآن كلام الله، وما فيه حق من عند الله يجب الإيمان بجميعه، واستعمال محكمه، وأن الصلوات الخمس فريضة، ويلزمه من علمها ما لا تتم إلا به من طهارتها وسائر أحكامها، وأن صوم رمضان فرض ويلزمه من علمه ما يفسد صومه، وما لا يتم إلا به. وإن كان ذا مال لزمه فرضا أن يعرف ما تجب فيه الزكاة، ومتى تجب، وفي كم تجب، ويلزمه أن يعرف بأن الحج عليه فرض مرة واحدة في دهره إن استطاع إليه سبيلا، إلى أشياء يلزمه معرفة جملتها ولا يعذر بجهلها، نحو تحريم الزنا والربا وتحريم الخمر والخنزير، وأكل الميتة والأنجاس كلها، والغصب والرشوة على الحكم، والشهادة بالزور وأكل أموال الناس بالباطل، وتحريم الظلم كله، وتحريم نكاح الأمهات والأخوات ومن ذكر منهن وتحريم قتل النفس” (جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر).

ومن ثم كان العلم الذي هو إدراك الشيء على حقيقته أو نقيض الجهل أو الاعتقاد الجازم، أو الحجة الواضحة مما تضمنته أول آيات أنزلت على الرسول ﷺ ﴿‌اقْرَأْ ‌بِاسْمِ ‌رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1-5] كانت حثًا بليغا عليه حيث أمرت بالقراءة وثنت بالتعلم، وبينت أهم أدواته (القلم). وما ذلك إلا لأنه وسيلة العمل، وقائده، وهو تابع له، ومؤتم به، وشرط في صحته وصحة القول، فلا يعتبران إلا به، كما أنه مصحح للنية التي هي شرط في صحة العمل.

ولهذا كان القول على الله بغير علم من الكبائر: ﴿قُلْ إِنَّمَا ‌حَرَّمَ ‌رَبِّيَ ‌الْفَوَاحِشَ ‌مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]، وليس من شك في أن العلم الشرعي هو أصل العلوم التي يحتاج إليها الإنسان، ومنه العلم بالله وأسمائه وصفاته، والعلم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية وما يكون من الأمور المستقبلية، وما هو كائن من الأمور الخاصة، والعلم بما أمر الله به من الأمور المتعلقة بالقلوب والجوارح وما يتعلق بها من أحوال. والعلم بأصول الإيمان. وعلى ذلك فأهم متطلبات الحياة البشرية السوية من العلم هو ما كان متصلا بحياتها اليومية من معرفة ما يحل وما يحرم، أي ما كان متصلا بعبادتها بالمعنى الشامل للعبادة الذي لا تند عنه خالجة من النفس، أو كلمة على اللسان أو حركة من جارحة ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي ‌وَنُسُكِي ‌وَمَحْيَايَ ‌وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162-163].

وذلك يعني شموله لكافة جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، فالعلم الذي يستوعب حركة الحياة كاملة هو الفقه في الدين حقيقة. فبالعلم بهذا المعنى تقوم العدالة، وتحدد الحقوق وتصان، وبه تتحقق ملاءمة الفطرة السوية، والقدرة على مسايرة التطور زمانا ومكانا حيث تستوعب مستجدات الحياة وأحوالها.

ولما كانت الغاية من خلق الإنسـان هي عبادة الله ﴿‌وَمَا ‌خَلَقْتُ ‌الْجِنَّ ‌وَالْإِنْسَ ‌إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] وكان العلم هو أداة تمكين الإنسان من هذه العبادة، وكان الإنسان في الحقيقة هو الذي يعبد الله ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ‌عِنْدَ ‌كُلِّ ‌مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 31]، فلا يحصل له من الإنسانية إلا بقدر ما يحصل له من العبادة التي من أجلها خلق، فمن قام بها حق القيام فقد استكمل الإنسانية، ومن رفضها فقد انسلخ من الإنسانية، فلا يكون الإنسان إنسانا حقيقة إلا بالدين، ولا ذا بيان إلا بمقدرته علـى الإتيان بالحقـائق الدينية ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) ‌عَلَّمَهُ ‌الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: 1-4]. فابتداء الآيات بعد اسم الله جل جلاله الرحمن بتعليم القرآن، قبل خلق الإنسان ثم الامتنان بتعليم البيان بعد الخلق: تنبيه على أنه بتعليم القرآن يكون الإنسان إنسانا على الحقيقة، وأن البيان الحقيقي المختص بالإنسان يحصل بعد معرفة القرآن، إلا أن الامتنان بتعليم العباد معاني القرآن وألفاظه يدل على عظم تلك النعمة لاشتمال القرآن على كل خير وزجره عن كل شر. والله إنها لنعمة وأيّ نعمة، ولا يجهل قدرها إلا كل ختار كفور.

فجهة العلم على الحقيقة ما نص في الكتاب أو في السنة أو في الإجماع أو أن يقاس على هذه الأصول ما في معناها، وليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام إلا من جهة العلم كما نقل ابن عبد البر عن الشافعي رحمهما الله.

وحقيقة العلم: هي كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «لَيْسَ الْعِلْمُ لِلْمَرْءِ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَلَكِنَّ الْعِلْمَ الْخَشْيَةُ». وأصل علم الأنبياء وعملهم هو العلم بالله والعمل لله كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية.

وتبليغ هذا العلم ونشره مقصد نبوي قائم بذاته غير مقصد الفهم والعمل، فقد دعا رسول الله ﷺ لمستمع العلم وحافظه ومبلغه “نضّر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه” (أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/24-3) وأخبر ﷺ أن الفقه في الدين من علامات سعادة الإنسان “من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين” (طرف من حديث، متفق عليه)، وأخبر عن نفسه ﷺ بأنه بعث معلما ميسرا في قوله: (إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، ‌وَلَكِنْ ‌بَعَثَنِي ‌مُعَلِّمًا ‌مُيَسِّرًا) (رواه مسلم)، وقال ﷺ: “لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمةً فهو يقضي بها ويعلّمها” (متفق عليه)، قال ﷺ: “‌من ‌سلك ‌طريقاً ‌يلتمِسُ فيه علماً سهّلَ الله له طريقاً إلى الجنّةِ” (أخرجه الترمذي وحسنه الألباني)، وقال ﷺ: «أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ ‌مَلْعُونٌ ‌مَا ‌فِيهَا إِلا ذكرُ الله وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ» . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وحسنه الألباني). وقال ﷺ: ” إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ ‌وَلَدٍ ‌صَالِحٍ ‌يَدْعُو ‌لَهُ ” (أخرجه مسلم).

والمسلمون الذين تلقوا عـن رسول الله ﷺ تلك النصوص وأدركوا قيمتها وطبقوها في حياتهم كانوا أسبق بذلك إلى إلزامية التعليم الحديث بنص القرآن والسنة وأقوال العلماء وتطبيقاتهم التي ربطت بين العلم والعمل، حذراً من إنذار الله الشديد لمن يخالف فعله قوله ﴿‌يَاأَيُّهَا ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌لِمَ ‌تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2-3] و ﴿‌أَتَأْمُرُونَ ‌النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44]. وما ذلك إلا لأنهم كانوا يدركون أن العلم لا يكون صحيحا سليما ما لم تصاحبه نية صالحة وإخلاص لله في طلبه باعتبار أن تلك النية هي أول منازل العلم.

ومن بين صور الحث على طلب العلم -لمنزلته العالية في الدين- بعبارات بليغة جامعة ما قاله سفيان الثوري: ويحكم اطلبوا العلم فإني أخاف أن يخرج العلم من عندكم فيصير إلى غيركم فتذلون، اطلبوا العلم فإنه شرف في الدنيا وشرف في الآخرة، وقال: ما يراد الله -عز وجل- بشيء أفضل من طلب العلم.

وهذه المنزلة العالية في حياة المسلمين هي التي وجهت المسلمين قديما وحديثا للحرص على العلم، فالمهتدون من الناس يريدون أن تصحّ عبادتهم لتقبل عند الله، ولا سبيل لذلك خارج نطاق العلم. لأنه هو الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن ثم كان معلم الناس الخير هو من يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء بسعيه في مصلحة الخلق وإصلاح دينهم ودنياهم. ولهذا كان فضل العلماء عظيما ومكانتهم في الأمة كبيرة ومنزلتهم عالية وآثارهم الحسنة كثيرة. ولو أغفل العلماء جمع الأخبار وتمييز الآثار، وتركوا علم كل نوع إلى بابه، وكل شكل من العلم إلى شكله؛ لبطلت الحكمة وضاع العلم ودرس، ولكن الله عز وجل يُبقي لهذا العلم قوما -وإن قلوا- يحفظون على الأمة أصوله، ويميزون فروعه فضلا من الله ونعمة، ولا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم منه الآخر ولهذا حث جل جلاله على العناية بتخصيص فئة من المسلمين للتعلم والتعليم في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا ‌كَانَ ‌الْمُؤْمِنُونَ ‌لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]، وامتن -جلّ جلاله- على الأمة ببعثة سيد الخلق المعلم الهادي في قوله سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي ‌بَعَثَ ‌فِي ‌الْأُمِّيِّينَ ‌رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2].

هذه المنزلة في الدين هي التي بوأت العلماء مكان الصدارة في حياة الناس لما حباهم الله به من فضل، وما خصهم به من مزايا، وما شرفهم به من الثناء في نصوص قرآنية نكتفي بإيراد بعضها لدلالته على المقصود مثل قوله جل جلاله: ﴿شَهِدَ اللَّهُ ‌أَنَّهُ ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا ‌هُوَ ‌وَالْمَلَائِكَةُ ‌وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]، وقوله جل جلاله: ﴿يَرْفَعِ ‌اللَّهُ ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌مِنْكُمْ ‌وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿‌قُلْ ‌هَلْ ‌يَسْتَوِي ‌الَّذِينَ ‌يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9]، وقوله جل جلاله: ﴿‌وَتِلْكَ ‌الْأَمْثَالُ ‌نَضْرِبُهَا ‌لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ ‌مِنْ ‌عِبَادِهِ ‌الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، فهي نصوص بالغة الدلالة على فضل العلماء ومنزلتهم العالية في الدين وفي الإمامة، وقد كثرت كذلك النصوص النبوية المبينة لفضل العلماء ومكانتهم لا نستقصيها هنا لوفاء ما نورد فيها بمتطلبات المعنى المراد. ومنها قوله ﷺ «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى معلم النَّاس الْخَيْر». (رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حسن غَرِيب)، وفي رواية: “فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء)” (أخرجه الدارمي وحسنه الألباني)، وقوله -ﷺ-: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ ‌قِيعَانٌ ‌لَا ‌تُمْسِكُ ‌مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (أخرجه البخاري)، وقوله ﷺ: (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ‌وَيَتَدَارَسُونَهُ ‌بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نسبه) (رَوَاهُ مُسلم).

ولا شك أن في تلك النصوص القرآنية والنبوية الكاشفة عن عظيم قدر العلماء ومنزلتهم العالية في دنيا الناس وفي الدين الحق الذي ختمت به الرسالات دلالة قاطعة تدل على أن مجتمع المسلمين الصالح مجتمع ميزته الأساسية الإيمان المؤسس على اليقين الذي قام الدليل على صحته من الهدى والفرقان، إذ الإيمان الصحيح والعمل الصالح هما دعامتا الفلاح في الدنيا والآخرة. قال الشافعي رحمه الله: “إن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل لما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة”

ولعل من المناسب في سياق الحديث عن العلم وفضله وأهمية نشره في العالمين التأكيد على أن حسن الديباجة وإشراقة الأسلوب مطلبان حتى يحقق العالم لعلمه أسباب الانتفاع به من إثارة ذهنية ومتعة وجدانية باعتبارهما مدخلين نفسيين مهمين لمخاطبة الناس وتعليمهم. وربما كان من المهم في ختام الحديث عن مكانة العلم وفضله وفضل العلماء ورفعة شأنهم إيراد قول جميل منسوب إلى جعفر بن محمد وهو: “وجدنا علم الناس كله في أربع: أولها أن تعرف ربك، والثاني أن تعرف ما صنع بك، والثالث أن تعرف ماذا أراد منك، والرابع أن تعرف ما تخرج به من دينك؟ أو ما يخرجك من دينك”.

منارات مضيئة حول العالم

Al Masjid Al Haram 15 دين الإسلام
زر الذهاب إلى الأعلى