مقالات اجتماعية

وسقط الصرح العظيم!

فرق كبير بين الرضا بقضاء الله وبين ألم الفراق وحزنه، فالحمد لله الذي وهبني الرضا بقضائه وقدره، رغم عظم المصيبة وجللها على نفسي وقلبي، والحمد لله الذي يلهم الصبر على قدر البلاء، والحمد لله الذي جعل جزاء الصبر على المصيبة الجنة، وكيف لنا ألا نرضى ونحن لا نملك في أنفسنا شيئا ولا في غيرنا بالطبع، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، فلا نقول إلا ما يرضى ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون.

عندما فارقني هذا الصرح العظيم الشامخ، شعرت أن خللا هز كياني وألجم لساني، شعرت لحظتها أن القوى الخفية التي تربطني بهذا الصرح منذ أن وٌجدت على هذه الأرض تعطلت فجأة، صدمة شديدة سببت لحظات توقف عن الوعي، بالرغم من مقدمات وعلامات الفراق التي شاهدتها في الأيام الأخيرة، إلا إنني لم أمهل نفسي فرصة لتصديق الحدث، لم أكن أريد تصديقه، صعب جدا أن ترضخ أحاسيسك لحقيقة ترفضها، حتى وان كانت حدثت بالفعل، وكيف تصدق انهيار الصرح الذي كنت تأوي إليه في لحظات لا يستطيع أحدا في هذه الدنيا أن يحتويك إلا هو، تحتمي بدعواته من القهر والمكر، وتستفيء بظله مما تخبئه لنا الأيام.

 هذا الصرح لا يكون إلا الأم، هذا الصرح هو أمي، تلك المرأة الوحيدة التي ظللت أقف أمامها في ضعف وتواضع مهما كبرت وقويت، ومهما هي ضعفت ووهنت ظلت هي الأقوى والأعلى، ولم لا وهي صاحبة كل الفضل عليٌ، منذ أن ولدتني طفلا صغيرا ضعيفا لا استطيع حتى إبعاد ناموسة عن وجهي، حتى أصبحت رب عائلة، بفضل مساندتها ودعمها ودفاعها عني، ودعائها الخالص لي.

والله يا أمي لولا أنه قضاء الله وسنته في خلقه، لسألت ربي أن يجعلني فداك، فأنت أحب اليَّ من نفسي ومن حياتي، فلولا أنت ما كنت أنا، ولكن عزائي أنك ذهبت لدار الحق والخلود، ذهبت لمن هو أرحم بك منا جميعا، ذهبت لأرحم الراحمين، وقد ظهرت علامات رحمة ربك عليك، ظهرت في شهادة التوحيد، التي كانت آخر ما تلفظ به لسانك، وحدك كررتها كثيرا دون أي تلقين، ودعوات الاستغفار التي لم تفارق شفتيك في أيامك الأخيرة، وعلامات أخرى كثيرة ظهرت لنا جلية، وحب الناس الحقيقي لك، وحزنهم الشديد لفراقك، هكذا هي شيم الطيبين.

لا عليك يا حبيبتي، لابد انك نسيت الآن آلامك الكثيرة الموجعة، التي أنهكت جسدك الطاهر الرقيق سنوات طويلة، وأضعفت قواك، وسببت لك الآلام والأحزان، لابد أنك نسيت كل أنواع الأدوية الكثيرة التي أرهقت معدتك الضعيفة، ولابد أنك نسيت أيضا أسماء الأطباء الكثر الذين عادوك وحاولوا تخفيف آلامك دون جدوى، ونسيت مئات الوصفات الطبية والتحاليل والأشعات، أعتقد أنك نسيت كل هذه الابتلاءات، بل وتمنيت إن كانت أضعاف ذلك عندما رأيت اليقين وجاءتك البشرى بأن كل ذلك أثقل ميزان حسناتك، وحط من خطاياك، ورفع قدرك عند ربك.

لا أملك لك الآن يا حبيبتي إلا الدعاء بعافية الله وعفوه، وهو كل ما أرجوه لك، ولا أملك لنفسي إلا أن يتغمدني الله برحمته لأصبر على مصيبة فراقك.

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Most Voted
Newest Oldest
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
0
أحب تعليقاتك وآرائك،، أكتب لي انطباعك هناx
()
x