ورغم أن الأقوال سهلة، وليس عليها جمرك، كما نقول نحن المصريين، وأي إنسان يستطيع أن يقول ما يشاء وقتما شاء، إلا أن الأقوال شيء والأفعال شيء آخر تماما، وكما قال سيد الخلق، صلى الله عليه وسلم: لكل قول حقيقة، فإذا تكلم أحد عن الجود، وأسهب في الحديث عن مناقبه فيه، لن يصدقه الناس إلا إذا جاد عليهم، أو رأوه بأعينهم يغدق العطاء لغيرهم، وإذا ما تكلم آخر عن بحر الثقافة والعلم، وما نهل منه، وما وصل إليه، فلن يصدقه أحد إلا إذا تحدث أمامهم فأحاطهم بعلمه، وثقفهم بثقافته، كما أن الناس لن تصدق من يتشدق بقوته وشجاعته، إلا إذا رأوه يذود عن نفسه، أو يدافع عن ضعيف. إذن، لن يستطيع أي شخص قول الكذب على كل الناس كل الوقت.
والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يظهر ما لا يبطن، كما أن البعض يهوى هذا السلوك، فتجد كثيرا من الناس يخفي ما بداخله، فإذا جاع استطاع أن يظهر شبعه، وإذا فعل أنكر، كما أنه يستطيع إظهار السعادة على وجهه بالرغم مما بداخله من حزن، عكس باقي الكائنات الأخرى، وبعض الناس يتحدثون عن قدراتهم ومهاراتهم في العمل، فإذا عملت معهم وجدت قدراتهم محدودة، أما صديقي – الذي تحدثت عنه في مرة سابقة – فقد أوهمني لفترة طويلة إنه مستأسد على زوجته، يعاملها بقسوة، لأن تلك هي الطريقة المثلى للتعامل مع “صنف” النساء، لكن الله أزاح الغمامة عن بصري، واكتشفت بطريق الصدفة أنه مجرد فأر أمام زوجته.
بعض الناس يتخفون وراء مظاهرهم، فإذا راقبتهم ظهرت حقيقتهم، فقد ينعم الله على أحد ببسطة في الجسم، فيوحي للبعض بقوته، ولكن الحقيقة تظهر في أول “خناقة”، أو قد ينعم الله على أحد بذوق في اختيار وتنسيق ملابسه، فيوحي للناس بغناه، وقد يكون لا يملك إلا هذه الملابس، أو كما حكى الإمام أبو حنيفة النعمان، عندما كان يجلس في المسجد بين تلاميذه، يعلمهم دينهم، وكان يمد قدميه لتخفيف آلام شعر بها، بعد أن استأذن تلاميذه، حتى دخل عليهم شيخ كبير السن، ذو لحية كثيفة طويلة، ويرتدي عمامة كبيرة، يبدو عليه الوقار، وجلس يستمع بين التلاميذ، فطوى الإمام قدميه احتراما لهذا الشيخ ثم واصل درسه، وكان يقول: “وينتهي يا أبنائي وقت صلاة الصبح حين طلوع الشمس، فإذا صلى أحدكم الصبح بعد طلوع الشمس، فإن هذه الصلاة هي قضاء، وليست لوقتها“، وهنا سأل الشيخ: يا إمام، وإذا لم تطلع الشمس، فما حكم الصلاة؟ فضحك التلاميذ جميعهم من هذا السؤال، وهنا قال الإمام: “آن لأبي حنيفة أن يمد قدميه“!