منذ أن أطلق شعبنا المصري ثورته المجيدة، ونحن نتنقل بين حالة من التفاؤل والتشاؤم، تارة نغمر في إحساس بالقوة والتفاؤل، وتارة أخرى نغرق في بحر من الحيرة والضياع. ورغم تكرار هذه التقلبات، التي لا نعتاد عليها، وتظل كل مرحلة منها مفاجأة جديدة.
مصادر القلق في الوقت الراهن تتنوع، ولكن القلق الأكبر يتمثل في الشعور بالتخبط والتشرذم داخل قوى الثورة. الشكوى المستمرة هي من تشتت الأولويات وتضارب الأهداف، لكن هذه ليست القضية الأساسية.
أعمق من مجرد تباين الأولويات، نحن نعيش في مرحلة متقدمة من الثورة، حيث نواجه خلافات جذرية بين القوى الثورية. الخلاف الأيديولوجي هو جوهر الأزمة؛ فالصراع بين الدولة العلمانية والدولة الدينية أصبح أكثر حدة من أي وقت مضى. كنا نظن أن النقاش حول “مدنية” الدولة سيكون مجرد مسألة تفاوضية، لكن الواقع أظهر أن الصراع قد تحول إلى صراع استقطابي حول مدى مدنية الدولة.
ثم يأتي الخلاف حول شكل الاقتصاد؛ هل نتبنى سياسات السوق الحرة المطلقة أم نطلب من الدولة التدخل لتحقيق العدالة الاجتماعية؟ هنا تتسع دائرة الآراء ويبرز السؤال حول مدى تدخل الدولة في الاقتصاد، سواء من خلال تعاونيات أو قطاع عام. الفلاحون يطالبون بقروض منخفضة الفوائد، بينما يحتاج الأطباء إلى هيكل أجور عادل. العدالة الاجتماعية تتطلب معايير متعددة تشمل التعليم المجاني والتأمين الصحي العام. في البداية، كان من المفترض أن تكون المواءمة في الاقتصاد سهلة، ولكن الخلافات ظهرت في التعامل مع التظاهرات والمطالب الفئوية.
هذه الخلافات تتداخل مع مسألة التكتيك في مواجهة المجلس العسكري والحكومة، بين قبول جدول الفترة الانتقالية أو الإصرار على تأجيل الانتخابات أو تقديم صياغة الدستور. في رأيي، الإحساس بالتشرذم ينبع من خلاف أعمق حول طبيعة اللحظة الراهنة وشكل الدولة. الخلاف لا ينحصر بين القوى السياسية فقط، بل يمتد إلى جمهور الثورة نفسه. هناك جدل حول تعريف معنى استمرار الثورة.
البعض يعتقد أن هذه الخلافات ستُحسم من خلال الانتخابات، حيث سيعبر الشعب عن رؤيته من خلال اختياره للنواب والرئيس، وسيعكس الممثلون الرغبات الشعبية. لكن جمهور الثورة في الشارع يطرح أسئلة مصيرية حول شكل الجمهورية الثانية والحكومة القادمة. التظاهر ضد المحافظين وانتخاب عمداء الكليات يعكس الأسئلة حول مدى مركزية الدولة، بينما التظاهر ضد السفارة الصهيونية يعبر عن سياسة مصر الخارجية وهوية الدولة.
محاولة حسم القضايا من الشارع ليست ضد الديمقراطية، بل هي جزء من الحوار المجتمعي المطلوب. جميع الديمقراطيات تشهد سجالات حول الأجور والعدالة الاجتماعية من خلال الإضرابات والتظاهرات، وليس فقط عبر صناديق الاقتراع. الانتخابات قد تكون وسيلة لتداول السلطة، لكنها ليست بالضرورة أفضل وسيلة للإجابة عن الأسئلة المعقدة.
في ديمقراطيات غربية عريقة، نجد تطابقًا بين الأحزاب في قضايا عدة مما يقلل من فرصة الناخب في الاختيار. وقد نرى ائتلافات بين أحزاب لم تحصل على أغلبية تشكل حكومات، وأحيانًا حكومات تتعارض مع رغبات كتل شعبية أكبر من تلك التي انتخبتها.
المشكلة تتضاعف بالنسبة للناخب المصري، الذي يشارك لأول مرة في عملية ديمقراطية حقيقية. المواقف والبرامج والتحالفات قد تُبنى على مواقف نظرية دون قراءة دقيقة لرغبات الناخب. في النهاية، لن تُقدم للناخب ورقة استقصاء رأي معقدة تحتوي على جميع الأسئلة المحورية، بل سيختار بين المرشحين والأحزاب وفقًا لتحالفاتها. كيف يختار الناخب بين دولة علمانية وقطاع عام، إذا تحالف اليسار مع الليبراليين؟ وكيف يختار بين دولة ذات مرجعية إسلامية وعربية، إذا تحالف الإخوان مع السلفيين؟ وكيف يختار بين دولة لا مركزية بضرائب على مستوى المحافظة، إن لم يُطرح الأمر للنقاش بين القوى المختلفة؟
إذن، تحركات كل القطاعات ليست فقط للتأثير على الحكومة الانتقالية والمجلس العسكري، بل أيضًا على برامج وأطروحات المرشحين والأحزاب للانتخابات والدستور. هذا التخبط هو صورة من صور الحوار المجتمعي المنشود، ومدخل لنقاشاتنا في سعينا نحو الجمهورية الثانية.