في سبتمبر 2017، كانت شوارع برشلونة تعج بالحياة، ولكنها هذه المرة لم تكن سياحية أو رياضية كالعادة، بل كانت سياسية بامتياز. خرج عشرات الآلاف من الكتالونيين للتظاهر، مطالبين باستقلال إقليمهم عن إسبانيا، كانت هذه المظاهرات تمثل قمة التصعيد في أزمة طال أمدها بين حكومة كتالونيا والحكومة المركزية في مدريد.
تزامن أن كنت في زيارة لمدريد في نفس التوقيت، قررت وقتها أن أسافر لبرشلونة بعد انتهاء عملي لأشاهد الحدث عن قرب، كمواطن عربي، وجدت في هذه المظاهرات فرصة للتأمل في الفرق بين التظاهرات هنا وهناك.
برشلونة، عاصمة كتالونيا، شهدت تجمعات هائلة من الناس في ميدان كتالونيا الشهير. رُفعت الأعلام الكتالونية بحماسة، وكانت الهتافات تدعو للاستقلال ولإجراء استفتاء حول هذا الموضوع، الأجواء كانت مشحونة بالعواطف، لكن الملاحظ هو الهدوء النسبي والانضباط الشديد للمتظاهرين.
الشرطة الكتالونية كانت متواجدة بكثافة، ولكن وجودها كان يهدف إلى التنظيم أكثر من أي شيء آخر، أيضًا الحضور الكبير للصحافة والإعلام المحلي والدولي أضفى طابعًا خاصًا على الأحداث، وأصبح العالم يراقب تطورات الأوضاع من قلب كتالونيا عن كثب.
ذهبت وتحدثت مع مجموعة من أفراد الشرطة، عرفتهم أنني من مصر، ففهموا أنني سائح، ولن أشأ أن أنبههم أنني صحفي حتى يصبح الحديث معهم أكثر سهولة، قال أحدهم ردًا عن استفساري نحن هنا لتنظيم التظاهر وحماية المتظاهرين، بعض الأشخاص يحاولون دائما استغلال مثل هذه التظاهرات لتحقيق أهداف ضد القانون، لذلك نحن هنا من أجل ذلك، وكما ترى فنحن نأكل ونشرب مع المتظاهرين، ولم تقع حتى الآن أي حوادث أو صدامات.
أحد أبرز المشاهد كان وجود العائلات بكاملها من الأطفال إلى الكبار في قلب الاحتجاجات، لقد بدا الأمر وكأنه يوم احتفالي رغم الحماسة السياسية الكبيرة في وجوه وأصوات المتظاهرين، حيث كانوا يحملون الأعلام ويرتدون ملابس تقليدية، ويشاركون في الأغاني الجماعية، هذا الجانب العائلي والثقافي أضفى على التظاهرات طابعًا فريدًا، حيث لم تكن مجرد احتجاجات سياسية، بل كانت أيضًا تعبيرًا عن الهوية والانتماء الثقافي.
فرق كبير جدا بين مظاهرات كتالونيا وتلك المظاهرات التي قد نشهدها في بلداننا العربية، فروق تثير الكثير من الأفكار والتساؤلات، ففي العالم العربي الاحتجاجات غالبًا ما تتسم بالتوتر والعنف، السلطات الأمنية أيضًا تتعامل مع المحتجين بعنف شديد، مستخدمة الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، في حين أن الاحتجاجات في كتالونيا كانت سلمية إلى حد كبير، وتميزت بالتنظيم والانضباط، حتى في حالات الاحتكاك بين المحتجين والشرطة، كانت الأمور تُحل غالبًا بطرق غير عنيفة.
أحد الفروق الجوهرية التي راعت انتباهي، هو كيفية تعامل السلطات مع الاحتجاجات، فعلى الرغم من أن الحكومة المركزية في مدريد كانت تعارض الاستفتاء بشدة وتعتبره غير قانوني، إلا أن هذه السلطات لم تلجأ إلى قمع المحتجين في كتالونيا، في المقابل، تُرى كيف كانت ستتعامل السلطات الأمنية في أحداث مماثلة مع المتظاهرين في وطننا العربي؟!
في تصوري أن أهم ما يمكن استخلاصه من هذه التجربة هو أهمية التنظيم والقدرة على التعبير السلمي عن الرأي، التجربة الكتالونية تُظهر كيف يمكن للشعوب أن تعبر عن تطلعاتها بطرق سلمية ومدنية، حتى في ظل التوترات السياسية، كما تؤكد على أهمية وجود وسائل إعلام حرة ومستقلة قادرة على نقل الصورة الحقيقية للأحداث.
صحيح تبقى لكل مجتمع خصوصياته وثقافاته، ولكن الدروس المستفادة من تجارب الآخرين قد تكون نافذة نرى من خلالها كيف يمكن تحسين أوضاعنا والتعبير عن آرائنا بطريقة أكثر سلمية وحضارية.